مصر هبة المصريين! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 1:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر هبة المصريين!

نشر فى : الجمعة 6 يناير 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الجمعة 6 يناير 2017 - 9:55 م
أول من استخدم تعبير «مصر هبة المصريين» هو أستاذ التاريخ الموسوعى الدكتور محمد شفيق غربال فى حديثه الأول ضمن عشرة بالإنجليزية فى الإذاعة المصرية، ونشرت بالعربية فى كتيب «تكوين مصر» (1957)، وقد أكد غربال أنه لا يقصد معارضة قول هيرودوت «مصر هبة النيل»، ولكنه أراد أن يعطى مفهوما جديدا عن تكوين مصر، وهو العمل الإرادى للإنسان المصرى، فهو يرى أن النيل يجتاز آلاف الأميال، ولكن على طول مجراه لا يوجد إلا مصر واحدة، كما يرى أن هِبات النيل كهِبات الطبيعة، طائشة عمياء (الفيضانات والجفاف ومستنقعات الملاريا...) يمكن أن تدمر كل شىء، ولكن الإنسان وحده هو الذى يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة، وهذا ما فعله المصرى عبر التاريخ، وعليه فإن «مصر هبة المصريين».

***

ويُبدى غربال ــ فى حديثه الثانى ــ تَبايُنا آخر عما ذهب إليه الاجتماعيون لفهم «الاستمرار والتغيير» فى تاريخ مصر، فهو يخالف عالم الاقتصاد والاجتماع باريتو Pareto (1848 ــ 1923)، الذى يعتبر فى نظريته 80 / 20 أن التغيير يأتى من الصفوة الـ20% التى تقود الـ80%، ويعارض أيضا النظرية الماركسية التى ترى التغيير فى أساليب الإنتاج، وفى الصراع بين الطبقات، فيطرح نهجا جديدا ــ فى الحالة المصرية ــ أسماه «ملازمة الوقائع»، يرى فيه أن المصريين تفاعلوا فقط مع ما يتوافق أولا مع نظام اجتماعى ثابت يقوم على ضبط النيل، وثانيا مع إنسانيتهم السمحة.

ولكن كل أجنبى وفد إلى مصر ــ مثل الهكسوس واليهود والإغريق والرومان والبطالمة، وحديثا الفرنسيين ثم الإنجليز ــ ولم يفهم طبائع الشعب المصرى السمحة، فسّر مقاومته له بأنه شعب عنيد لا يقبل التغيير ويكره كل جديد، ولكن الحقيقة أن المصريين يكرهون كل من يخالف طبيعتهم المعتدلة، فقاومهم بالعناد والصلابة، فالمصرى يستجيب لمن يتوافق مع خصائصه، نراه يُناصر أخناتون (1353 ــ 1336ق.م) فى ثورته ضد تعدد الآلهة مطالبا بالتوحيد والتجديد، ثم يأتى بعد ألف عام الإسكندر الأكبر (336 ــ 323 ق.م) الذى يَدخل المصريون معه طورا جديدا من أطوار حضارة مصر المتنوعة، واحتضنوه لأفكاره الإنسانية المنبثقة من أخوة بنى الإنسان، ودعا للتعاون بين الحضارتين ــ المصرية والإغريقية ــ بيد أن البطالمة ــ خلفاء الإسكندر ــ لم يفعلوا شيئا من هذا، فكرههم المصريون وقاوموهم.

ويرى غربال أن أهم التغييرات فى تاريخ مصر التى استجاب لها المصريون اعتناقهم للمسيحية ثم للإسلام بعد ذلك، فقد تحرر المصرى تحررا حقيقيا من رق الخرافة والعبودية لغير الله، ومن رق الإغريق والرومان، فقدم المصريون فى عصر المسيحية فنا جديدا، وأقاموا كنيسة قومية مستقلة، وبدخول الإسلام اتسع الأفق المصرى، وامتد شرقا إلى محيط مهبط الإسلام، ولكن المصرى حافظ على ثقافته الإسلامية المعتدلة، وها هو الإمام الشافعى ــ القرشى ابن مكة والمدينة ــ يجىء إلى مصر فيعيد تصنيف كتابه «الرسالة» ــ عن أصول الفقه ــ ليتوافق مع المزاج المصرى، فيُحدث تناغما بين«الاستمرار والتغيير»، ولم يُقدِم المصريون على تغير جديد إلا بداية القرن التاسع عشر، مع بدء الاتصال بالغرب ومجىء حملة نابليون (1798 ــ 1801م)، ومن بعده محمد على (1805 ــ 1848).

***

هذا ما وهَبه المصريون لمصر حتى نهاية القرن التاسع عشر ــ من وجهة نظر غربال ــ واستمرت الحياة على نفس الوتيرة فى النصف الأول للقرن العشرين، فكان بحق عصرا للتنوير، كان الملوك يأتون إلينا للعلاج، ويرسلون أبناءهم ليتعلموا فى مدارسنا وجامعاتنا، وازدهرت العلوم والآداب، وفيه تأسس دستور 1923م ــ أول مجلس نيابى له سلطة التشريع والمُساءلة ــ، وفيه نشأت الأحزاب، فكانت فترة خصبة من الليبرالية بما لها وما عليها، وساد التسامح والخطاب الدينى المعتدل، ولم يعكر صفو هذه الفترة سوى الاحتلال الإنجليزى الذى ــ فضلا عن احتلاله للبلاد ــ كان سببا رئيسيا فى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين (1928) التى خلطت الدين بالسياسة، فبذرت الفتن السياسية والاجتماعية، ومازالت تبث سمومها فى جذور المجتمع.

والآن نستعرض ما وهبه المصريون لـ«أم الدنيا» منذ النصف الثانى للقرن العشرين، جاء أول تغير حقيقى مع ثورة 1952، فأحدثت انقلابات سياسية واجتماعية: تحولت مصر لنظام جمهورى، وأُلغيت الأحزاب، وأُممت قناة السويس، وفُرض قانون الإصلاح الزراعى، وقامت محاولات جادة لتقليل الفوارق الاجتماعية، وبدأ المد القومى، وشاركت فى معارك تحررية مع دول العالم الثالث، ولكنها لم تُنفذ تعهدها بإقامة حياة ديمقراطية، فوقعت هزيمة 1967، وضاعت كل المكاسب، فقرر الجيش الانسحاب من المشاركة السياسية داخليا وخارجيا، واهتم بتخصصه فى الدفاع عن حدود الوطن، فكان نصر أكتوبر 1973، ثم دخلت مصر فى فترة كمون، واستقر انتقال السلطة فيها بالتوارث المهنى، فتجمدت كل الأنشطة السياسية، وعقدت التحالفات بين السلطة ورجال الأعمال والمعارضة التى استحوذ عليها التيار الدينى، وذلك لتوريث السلطة لتصبح مصر جمهوملكية.

وفى 25 يناير يثور الشعب على تحالف السلطة بالمال وبالدين مطالبا بإقامة دولة معاصرة تؤمن بالحريات وبالديمقراطية، إلا أن التيار الدينى ينتهز فرصة الفراغ السياسى، ويستغل انهيار السلطة الأمنية التى طغت، ويخالف كل أصول التغيير فى حالة الثورات، فيقرر انتخاب رئيس الجمهورية قبل إنشاء دستور يحدد مهام الرئيس والمؤسسات، ويستأثر بالحكم، ويحنث بكل وعوده، فيؤسس لدولة دينية / طائفية، وينتهك الدستور بـ«إعلان دستورى» لا يملك إصداره، يعتدى فيه على القضاء، ويُؤلّه الحاكم بتحصين قراراته، متجاهلا الطبيعة المصرية المعتدلة!

يثور الشعب من جديد على هذه الاعتداءات فى 30 يونيو ــ بمسانده الجيش للثورتين ــ ويصحح الأوضاع، فيبدأ بكتابة الدستور يشارك فيها كل أطياف الأمة، ولكن لأن القانونيين المتخصصين فى لجنة تشكيل الدستور كانت أقلية، يأتى الدستور مخالفا للأعراف الدستورية السليمة، فَيَنُص على تشكيل البرلمان قبل الرئاسة التى يجب أن تكون الأولوية لها لتضبط أركان الدولة بعد ثورتين تفكك بعدهما كل شىء، فيتم أول اختراق للدستور، وينتخب الرئيس أولا، ثم تأتى المخالفة الثانية بتأجيل انتخابات البرلمان عن الفترة القانونية بغرض تأسيس مجلس اصطناعى كانت نتائجه كارثية.

***

نستعرض ما يثبت ذلك من تصرفات أعضائه، يصدمنا أولهم بدعوة سفير دولة ناصبتنا العداء سنين عددا فى بيته!، وثان يتهم ثالثا بانتحال شخصيته للمطالبة بقانون «كشف العذرية»!، ويرفض رابع فرض عقوبة على ختان الإناث لأن أغلبية الرجال يعانون من الضعف الجنسى! ويدفع خامس بشقيقه ليرد عنه فى أحد البرامج لأنهما مثل «موسى» وأخيه «هارون»، فأخوه أفصح منه! وسادس يتاجر فى الأدوية المهربة! ويطالب سابع بمنع سفر الأطباء والمهندسين للخارج إلا بعد عشر سنوات من تخرجهم، ويطالب ثامن بتجريم روايات نجيب محفوظ لأنها خادشة للحياء، بينما لا يحاسب أعضاءه الذين يخدشون حياء الناس ليل نهار بالسب العلنى! ويفرض تاسع سطوته لعدم تنفيذ حكم قضائى نهائى لتصعيد عضو جديد! وما خفى كان أعظم فيما لم نسمع عنه أثناء فترة منع إذاعة جلساته، كما يشكو رئيس البرلمان من تغيب الأعضاء عن الجلسات!، هذا، ولا نرى أى جهد فى تعديلات تشريعية يطالب بها الشعب مثل تعديل قانون الإيجارات القديمة، وقانون الأحوال الشخصية الذى يحرم الطفل من زيارة أبيه وعائلته! والأدهى أنه يعيق مسيرة الدولة المدنية فيرفض حذف خانة الديانة فى استمارات إدارية يتم التعامل بها داخل جامعة القاهرة... !!

هكذا يبدو برلمانا بلا تشريع وبلا رقابة وبلا التزام بالأحكام القضائية!، برلمان لا يتحرك إلا بأوامر، فلا يبادر بعمل تعديلات على القوانين الجنائية لملاحقة الإرهابيين ــ الذين يقتلون منذ سنين طويلة أبناء وحماة الوطن من الجيش والشرطة ــ إلا بطلب من الرئيس.

والسؤال المطروح هل سيُعدلون القوانين الجنائية ضد الإرهابين فقط؟، وماذا عن الذين نهبوا ثروات البلاد وينالون البراءة تلو الأخرى بقوانين من صنعهم فى عصر الفساد، فكانوا سببا رئيسيا لإشاعة الإرهاب بما صنعوه من فقر وجهل ومرض وفساد؟

وفى الاقتصاد، يتم تعويم الجنيه دون إعلان خطة واضحة لدفع التنمية، ودون خطة لحماية المعدمين والفقراء والطبقة الوسطى، وفى الوقت الذى يئن فيه الوطن من نقص الموارد، نجد رجال أعمال يحيون حفلات زفاف أبنائهم فى أفخر فنادق أوروبا ويدعون جمع هائل للأقارب وللأصدقاء دون محاسبتهم بـ«من أين لكم هذا؟»! ومازالت تحنو علينا سويسرا فتمدد تجميدها لأموال رموز نظام مبارك!.

وعن الخطاب الدينى، لم يقدم الإعلام إلا شابا ينقصه العلم المتين، فيتهجم بالسب على فقهاء كبار اجتهدوا طبقا لمعطيات عصورهم، أصابوا وأخطأوا، وإعلامى محنك يتهم الشيخ الشعراوى بتسببه فى الإرهاب! وشيخ يدعى أنه «المهدى المنتظر»! وإعلامى شهير يدعى أن المسيحيين هم أصحاب هذا الوطن، علما بأن المسيحية عمرها ألفى عام فقط، فمصر ــ ذات الخمسة آلاف عام ــ لا هى مسيحية ولا إسلامية، ولكنها مدنية احتضنت الديانتين لمبادئهما السامية.

***

إن كل هذه الانحرافات العقلية والأخلاقية سببها الوحيد انهيار منظومة التعليم، فالذى يُفجر نفسه معتقدا أنه يُرضى ربه لم يتعلم قول الله: «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون» [يونس 98 ــ 99]، والنبى (ص) تعامل مع المجوس ولم يقتلهم، ومازال المسئولون فى مصر لا يصدقون نصائح حكماء العالم عن معجزات التعليم، هكذا يقول نيلسون مانديلا: «التعليم هو السلاح الأقوى الذى يمكن أن نستخدمه لنغير العالم»، وفى هذا القول نجد الرد البليغ على تساؤل فخامة الرئيس: «وحيعمل إيه التعليم مع وطن ضائع؟»!

هذا ما وهبه المصريون لمصر حديثا ولم يتحدث عنه غربال فى 1957، والله المستعان.
أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات