أحداث ومواقف - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحداث ومواقف

نشر فى : الإثنين 6 أكتوبر 2014 - 7:40 ص | آخر تحديث : الإثنين 6 أكتوبر 2014 - 7:40 ص

من المحدد أن ينشر هذا المقال فى يوم يمثل ثلاثية أولها أنه يصادف ثالث أيام عيد الأضحى، فأوجه إلى القارئ الكريم أخلص التهانى بمناسبة عزيزة على البشرية منذ انتظمت قواعد حياتها. فإذا ضاعفنا الثلاثة كان الرقم 6 الذى يذكرنا فى أكتوبر من كل عام بانتصار أدخل مصر بسطور من ذهب فى سجل التاريخ. أما الثالثة فهى أنه إذا ضوعفت الثلاثة بعدد أيام الشهر أى ثلاثين مرة فإنها تؤشر لذكرى أول يوم تفتحت عيناى فيه على الدنيا. لذا فإننى أخرّ لله ساجدا أن اقترن عيدى الخاص بعيد لمصر والعرب وآخر للبشرية جمعاء.

دعونى أشرككم فى «أنجر فتة» لملمت فيه ذكريات ساهمت فى تشكيل شخصيتى. وبمناسبة العيد أرجع إلى عيد كنت بلغت فيه الرابعة، وفى بحثى عن لعبة العيد أسفل كنبة عثرت على قطعة فضية من ذات الخمسة قروش فقدها صبى كان يعمل لدينا. فإذا بوجهه يتهلل ويصيح مبتهجا: الله يخليك.. لقيت لى عيديتى. كان أول رد فعل أننى بعمل عفوى أضفيت سعادة على إنسان، فطاب خاطرى وسعدت معه. ولكننى بعد تأمل حرت كيف تحظى قطعة نقود صماء بكل هذا القدر من الاهتمام، فقد حكمتنى تربيتى أن أكون قنوعا، يوفر البيت لى كل ما أريد ولا أتطلع إلى ما بيد الغير. ترى هل كان ذلك مقدمة لنبذى فيمت بعد لليبرالية القائمة على تقديس تجميع النقود؟

سبقت تلك الواقعة حادثة أخرى أصابت البيت بارتباك، إذ اختطف الموت جدتى الحبيبة وصحبه إطلاق بخور، مما أدى إلى شعورى بالضيق كلما شممت رائحته فى ترابط لا أدرى سببه. وعندما اتسعت مداركى أدركت أن النفس البشرية تميل إلى الربط بين أحداث تثير الانقباض وأخرى تقترن بها مصادفة فنلصق بها علاقة سببية تتوهمها. وتكرر الأمر بعد سنة عندما سمعت صراخا، فأطللت من النافذة وإذا بجار لنا يضرب حارس المنزل، فتساءلت منزعجا: هل يضربه لأنه عبد (أسمر) يصلى؟ وفقا لمفهومى حيناك للآية الكريمة: «أرأيت الذى ينهى عبدا إذا صلى». وأعقب ذلك شعورى بالحموضة فعزفت أمدا طويلا عن تناول الخبيزة التى كنت أتناولها وقت وقوع الحادثة وكأنها المسئولة.

•••

ومرت الأيام إلى أن بلغت الثانية عشرة وبدأت أستعد لنيل شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، ووعد مدرس الحساب الشاب بأن يهدى قلمه الحبر (الأبانوس) لمن يحصل على الدرجة النهائية من بين حوالى 150 تلميذا. كنت أنا الفائز، فإذا به ينظر إلى شذرا. وظل زملائى يحثونى على مطالبته بالوفاء بوعده، وكان جوابى أن تحقيق هدفى بتحصيل الدرجة النهائية أثمن عندى من أى قلم. وظللت بعد ذلك أحرص على تحقيق الجانب المعنوى الذى يشعرنى بالرضا دون أن أعبأ بالهدف المادى، وهذا هو أهم ثروة خلفتها لأولادى الذين نمّوها فظلوا شامخى الرأس.

•••

ثم بدأت فى فترة المراهقة أناقش والدى، رحمه الله، فى مسائل تحيرنى، فكان يبادرنى بالقول «ابدأ بالإيمان»، فأجيب أريد أن أصل له، فيردد العبارة وهو فى غاية الهدوء. وبعد تفكير حاولت أن أتابع ما يترتب على سلوك طريق مدخله الإيمان، وأداته العلم خاصة القليل الذى درسته من الرياضيات. فالكون لا ينشأ فى عدم، بل فى فراغ، ومن ثم فإن الخالق أنشأ الفراغ ليحتويه، ثم خلق للكائنات الزمن لتتحرك أثناءه. وبالنسبة للبشر الزمن بالمفهوم الهندسى، خط مستقيم يتكون من نقط لا عودة إلى ما سبقها ولا قفزة إلى ما بعدها إلا بالمرور بما يفصلهما، فلا عودة إليها. ولو كان للزمن بعدان متعامدان أصبح سطحا يمكّن تجاوز ذلك القيد، بالعروج فيه للزمان والمكان، ومن هنا كان الإسراء والمعراج. هذه الآليات تنتفى الحاجة إليها فى الآخرة التى تتصف بالخلود. وهكذا كان البدء بالإيمان عاصما وهاديا لتوظيف العلم الذى ما أوتيت منه إلا ذرة من القليل.

انشغل والدى بإعداد رسالة لنيل درجة كبار العلماء فى مجاله وهو النحو والصرف، عن كلمتين: «نِعْم وبئس». ونصحه المحكمون بعد تلكؤ طال أمده بأن يثير الأمر مع زميله فى الدراسة كانا يسهران معا فى طلب العلم وهو شيخ الأزهر المراغى. فزاره يوم خميس فى منزله بحلوان، ورجع مستبشرا، وقال له مودعا «ادعى لنا يا سيدنا الشيخ». ويوم السبت جاء البريد برسالة إحالته للمعاش قبل سن التقاعد بثلاثة أعوام، وحمدت الله أننى قبلها بأيام قررت فى ضوء نتائج الدور الثانى لكلية الهندسة والرسوب الطاغى فى مادة لا أهضمها وهى الكيمياء، أن أتقدم إلى كلية التجارة بحوالى نصف مصاريف الهندسة، ولأربع سنوات لا خمس. نِعْم ما فعل وبئس ما نال.

•••

وفى أوائل أكتوبر 1944 وأنا أتأهب لنيل بكالوريوس الاقتصاد كان أول قرار أصدره أحمد ماهر عقب تشكيله الوزارة القبض على أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للطلبة الوفديين. ووقف البوليس السرى بمدخل الكلية وبرفقتهم الطلبة الإخوانيون. وعند دخولى نبههم زميل منهم هو محمد قاسم يونس الأنصارى إلى أنى وفدى، ولكن أنقذنى زميل آخر هو إبراهيم صقر (قبل انفصاله عنهم) ذكر أننى استقلت منها قبل عام. وعندها تذكرت تحذير والدى لى منهم واصفا إياه بالمتجرين بالدين. غير أن تهمة العضوية أوقعت بينى وبين أستاذ الاقتصاد وهيب مسيحة الذى كان معجبا بتفوقى، فاختارنى لاتحاد الطلبة ظنا أننى لست منشغلا بالسياسة، وكان هو قد ترك الوفد إلى الكتلة التى أنشأها مكرم عبيد. فأغلقت باب التخصص فى الاقتصاد وتحولت للإحصاء.

•••

وأسعدنى الحظ أن أعمل معيدا بقسم الإحصاء مع من كان أبا لعلماء الإحصاء العرب، عبدالمنعم ناصر الشافعى الذى جمع بين العلم والإيمان. وقبيل امتحان السنة الأولى للماجستير أخبرنى أنه أعد جدول الامتحان، فسألته تلقائيا: ما هو حتى أبلغ به زميلى لويس النمر الذى كان يعمل بشركة المياه. فكان رده الذى أوضح لى سذاجة الاكتفاء بحسن النية: أحضره حتى أبلغكما معا. رغم ثقته التامة فى صدق نيتى، فإن انصياعه لأمر الله بالحكم بين الناس بالعدل، منعه من إكسابى ميزة سويعات أسبق به زميلى فى الحصول على المعلومة.

وتم ترشيحى لبعثة ثلاث مرات، وفى كل مرة يظهر منافس يلجأ إلى الواسطة فيحرمنى منها. وفى الرابعة تقرر ترشيح أقدم المعيدين لأولى بعثات جامعة أسيوط. وتصادف زيارة الدكتور الشافعى لعميد الكلية أثناء فحص طلبات الترشيح التى كان يعدّها الوكيل وهيب مسيحة. ولما سأله عن بعثة الإحصاء ارتبك وتساءل لماذا لم أتقدم، لذا رشح شخصا من جامعة الإسكندرية (ربما ذا صلة قرابة) واقترح منحه مهلة للحصول على ختم الكلية تصديقا لادعائه الحصول على امتياز، فإذا بالشافعى يخرج طلبى من بين الأوراق. وفى القومسيون الطبى صادفت محاولات مصطنعة للحكم بعدم لياقتى طبيا، منها الادعاء بوجود تضخم بالبطين الأيمن، فسرّه لى أحدهم بأننى معرض للموت فى أى لحظة!! وراجعت كبار الأطباء فأجمعوا على كذب التشخيص. وعرض زميل لقى تعنتا مثلى الأمر على أحد المسئولين فى مكتب البعثات، فاستفسر عما إذا كان شخصا سماه هو الاحتياطى له، فقال له إنه مر شح زميلى.. كان يقطن جارى ويتابع خطوات الكشف التى أتممتها.. الفارق أن زوج عمته كان وكيلا لوزارة الصحة. أحمد الله أن طه حسين استخدم سلطته فأعفى سبعة أشخاص، كنت وزميلى منهم، من شرط اللياقة الطبية.

خير الختام أهديكم «القلب يعشق كل جميل» كانت هدية بيرم وأم كلثوم لشريكة حياتى رحمها الله ولى يوم جمعة وقفناه على عرفات فى فبراير 1970.

وكل عام وأنتم بخير.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات