لُــــقمَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لُــــقمَة

نشر فى : الجمعة 7 يناير 2022 - 9:10 م | آخر تحديث : الجمعة 7 يناير 2022 - 9:10 م
"ممكن لقمة لو سمحتي" عبارة قصيرة نطقها صبيّ؛ يرجو من عابرة طريق أن تعطيه من فطيرة أمسكتها بكلتي يديها وراحت تقضمها في تلذذ. استجابت دون أن يفاجئها الطلب؛ فقد كثر عدد الجوعى مثلما تنامى عدد المطاعم. في مشهد مشابه، دخلت فتاة صغيرة محلًا متواضعًا يصطف زبائنه انتظارًا لتحضير مستلزماتهم من الفول والطعمية والباذنجان. اقتربت في خفة وخفر من البائع وهمست: "عايزين لقمة يا عم للغدا". لم يبد هو الآخر متفاجئًا، فقد مال إلى الجانب الأيسر قليلًا ثم اعتدل وقدم لها كيسًا بلاستيكيًا ممتلئًا يبدو وقد أُعِدَّ سلفًا.
***
اللُقمة في معاجم اللغة العربية هي ما يُؤخَذ في المرَّة الواحدة كطعام وجمعها لُقَمٌ ولُقمات؛ يحملها الآكلُ بين أصابعه أو في أسنانِ الشوكة أو على الملعقةِ، تصِلُ إلى الفمِ أو لا تصل، المهم أنها تُعبِّر عن حجمِ ما قرَّر أن يمضُغَ وأن يبتلع.
***
يُقال دومًا إن لُقمةَ العَيشِ مُرَّةٌ، والمراد ذاك الشقاء الذي لا مفرَّ منه كي يتحصلَ المرءُ على ما يقيم أودَه ويضمن حياته. المرارةُ من الصعوبة ومن إنفاقِ الوقت في كدٍّ وعرقٍّ بدلًا من لهوٍ وترفٍ، لكن الحالَ ليست دومًا على هذا المنوال؛ فنفر من الناس يجد اللُقمةَ حاضرةً في صحنه، لا يحتاج في سبيلها إلى اجتهاد، ونفر آخر لا يجدها وإن أنهكه السعيُ وأضناه.
***
إذا طلب المرءُ وجبةً عابرةً خلال يومِه؛ وصف رغبته بأنها لُقمةٌ خفيفة، وإذا أراد ما يسدُّ جوعَه مؤقتًا إلى أن يتفرغ للأكل؛ أفصح عن ميله إلى تناول لُقمةً سريعة، وما أكثر اللقيمات التي تتبعثر في حيواتنا؛ وقد صارت بدورها سريعةً مُتعجِّلة، تفقد حقَّها في التأني، وتفقد حِصَّتَها من الاستمتاع.
***
يؤكد المأثور الشعبيّ أن ”لُقمةً هنيةً تكفي مية“، والمعنى أن قليلَ الرزق إنما طيبه؛ كاف لإشباع الجميع، فإذا انتفت صفة الهناء عنه لم يعد ذا قيمةٍ، بل عاد إلى حجمِه الطبيعيّ الضئيل: لقمة لا تشبِع فردًا واحدًا.
***
لم أعرف للُقمةِ القاضي اسمًا آخر عبر سنواتٍ طويلة؛ إلى أن تبينت مُصادفةً أنها أيضًا زلابية، وأن هذا المُسمّى أشهر وأكثر رواجًا من الذي احتفظت به عمرًا في قاموسي الخاص، وأن سلسلةً من الأكشاك تسمَّت به، وصارت تقدِّم الحلوى الشهيةَ وتتخصَّص فيها، وتبتدع لها الإضافاتِ والمُحسِّنات فتجعل إلى جانب العسل والسُكَّر؛ شوكولاتة سائلة على اختلاف أنواعها، ولا ضير من إدخال ما في حكمها من مُستجدات، تجتذب الزبائنَ مُحبي التجارب الجديدة.
***
كانت جدَّتي تطلبُ لُقمةَ خُبزٍ وجبن أبيض كلما ألححنا عليها أن تأكل. لقمةٌ بجبن هي الإجابةُ الوحيدةُ التي ألفناها بمرورِ الوقتِ ولم نعد نعترض عليها أو نحاول تغييرها. ذاك طعامُها المُفضَّل؛ يعدل عندها وليمةً كُبرى وإن جمعت ما تشتهي الأنفس. لا تكتمل وجبتُها الصغيرة المُفرحةُ إلا بكوبٍ من الشاي، والشاي ذاته لا بد وأن يلقمَ بحرصٍ؛ فلا تزيد حبيباتُه في الملعقةِ مقدار ذرة ولا تنقُص. لُقمةُ الشاي فنٌّ، والفَنُّ يضبِط المزاجَ ويدفئ الروح.
***
لُقمةُ الفتَّة هي الأخرى تعبيرٌ دارجٌ، لا يشي بحقيقةِ الوعاءِ الضَّخم كما جَرَت العادةُ، المُحتوي على قِطع خبز مغموسة في المرق محاطة بالأرز، مزدانة بالثوم والطماطم المعصورة أو الزبادي، وقد تكون خاوية من كل مصدر للدسم، أو قد تختبئ داخلها قطع اللحم. ليست لقمة واحدة بالطبع؛ لكنها المبالغة التي ألفناها تهويلًا وتهوينًا.
***
إذا أعد الواحد عدته وتحضَّر للنِزال لقم سلاحَه، وإذا خفَّت امرأةٌ لإرضاع وليدِها لقمته ثديَها، أما إذا بات المرءُ في حالِ ضَعفٍ، وهان أمره وسهُل النيلُ مِنه؛ قِيل إنه استحال لقمةً سائغةً، لا صعوبة في سحقها وابتلاعها. لقمةٌ لا تقاوم الذوبانَ والامتصاصَ، ولا تتسبَّب لمتناولها في عُسرِ الهَضم.
***
صعدت أممٌ لم تكن على الخارطة في الآونة الأخيرة، وتراجعت قوى كانت من قبل عظمى، واتخذ الصراع صورة جديدة تتبلور في الحين ملامحها، فيما بقيت أطرافٌ أخرى في محلِّها، تخشى الحلبةَ وتتمسَّك بكونِها لُقمةً سهلة.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات