ثنائيات متأزمة فى الواقع العربى الراهن - مواقع عربية - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثنائيات متأزمة فى الواقع العربى الراهن

نشر فى : السبت 7 أغسطس 2021 - 9:45 م | آخر تحديث : السبت 7 أغسطس 2021 - 9:45 م

نشر مركز الحوار العربى بواشنطن مقالا للكاتب صبحى عندور يتناول فيه الأزمات التى تواجهها المجتمعات العربية والحاجة إلى وجود مشروع فكرى نهضوى متكامل يقوم على التلازم والترابط بين أهداف الديمقراطية والتحرر الوطنى والعروبة والعدل الاجتماعى... نعرض منه ما يلى:

يرتاح عامة الناس إلى تبسيط التصنيفات والخيارات فى الأمور كلها، حتى فى القضايا الدينية. لذلك نرى الآن ازدهارا كبيرا لظاهرة «الفتاوى» والركون إلى ما يقوله «المفتون» بدلا من تشغيل العقل فى فهم النصوص. أيضا، تستسهل المؤسسات الإعلامية المختلفة تصنيف الجماعات والتيارات السياسية فى أحد اتجاهين: مع وضد. لذلك نشهد حاليا توزيع المواقف السياسية بين إما داعمٍ لحكم أو مؤيدٍ لمعارضة، على الرغم مما فى ذلك التوزيع من إجحاف لمواقف البعض المنتقدة فى هذا البلد أو ذاك للحكم وللمعارضة معا.
هى سياسةٌ اتبعها أيضا الكثير من الحكام وقادة الدول الكبرى تجاه حكوماتٍ رفضت نهج التبعية لمعسكرٍ ضد آخر. فهكذا كان الحال خلال فترة الحرب الباردة حيث تعرضت مجموعة دول «عدم الانحياز»، التى أسسها فى منتصف خمسينيات القرن الماضى عبدالناصر ونهرو وتيتو، إلى محاربةٍ من طَرَفَىِ الحرب الباردة. وهكذا أيضا مارست إدارة جورج بوش الابن خلال حربها على العراق سياسة: «من ليس معنا فهو ضدنا»، وحينما قسمت العالم بين «قوى الخير وقوى الشر» تحت حجة «محاربة الإرهاب»، ولم يكن مقبولا الاعتراض حتى من بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة.
وكان العالم كله، وما زال بعضه إلى الآن، يستحسن تقسيم الأحزاب والتيارات السياسية إلى «يمينٍ ويسار»، كما كانت أيضا تسميات «رجعى وتقدمى» سائدة فى عقودٍ عديدة من القرن الماضى. وهذه التصنيفات ارتبطت سابقا بأبعادٍ اجتماعية واقتصادية، وكانت انعكاسا للصراع الذى دار فى القرن العشرين بين التيارين الشيوعى والرأسمالى، والذى لم يكن مقبولا فيه التمايز عن أحد التيارين. فالاشتراكية الوطنية كانت تُحسب على الشيوعية حتى إنِ اختلفت عنها تماما، كما حدث فى تجارب عديدة خارج الفلك الشيوعى، ومن ضمنها تجربة جمال عبدالناصر الاشتراكية.
طبعا، النشأة التاريخية لتعبير «اليمين واليسار» ارتبطت بما كان يحدث أيام الملك الفرنسى لويس السادس عشر حيث كان المؤيدون لسياساته يجلسون إلى يمينه، بينما يجلس المعترضون إلى يساره.
ونجد بعض الإعلام العربى يوزع الحركات السياسية العربية إلى مجموعتين «إسلامى» أو «ليبرالى» دون إدراكٍ أن هذه التسميات لا تُعبر فعلا عن واقع وعقائد كل الحركات والتيارات الفكرية العربية. ولا يجوز أصلا اعتماد تسمياتٍ تجعل من الآخر فى موقع الضد لها. فهل غير المنتمى لحركةٍ سياسيةٍ تحمل صفة دينية يعنى أنه غير مؤمن أو مسلم أو على تناقضٍ مع الدين نفسه؟! وهل من هو منتمٍ لتيارٍ سياسى دينى يعنى أنه رافضٌ للحريات وللمجتمعات المدنية التى يدعو لها الفكر «الليبرالى»؟!
•••
إن قضايا التحرر والهُوية القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان، هى كلها قضايا إنسانية عامة لا ترتبط بمنهجٍ فكريٍ محدد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا ولا الابتعاد عنه يعنى تخليا عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين فى الحياة.
فالاحتلال الإسرائيلى مثلا لم ولا يميز بين التيارين الدينى والعلمانى فى الأراضى المحتلة، إذ المستهدَف هو الفلسطينى إن كان من هذا الدين أو ذاك، أو إن كان «علمانيا» أو «إسلاميا». الأمر نفسه ينطبق على القضايا الاجتماعية فى أى بلدٍ من العالم، حيث لا دين ولا لون فكريا للفقر أو للظلم الاجتماعى.
ومن الأمور، المهم التوقف عندها أيضا، هو حال التخبط أحيانا فى استخدام المفاهيم والمصطلحات، عِلما بأنه ليس هناك نموذج تطبيقى واحد لأيٍ من المصطلحات المستخدمة («الدينى» و«العلمانى»). ففى الدائرة الغربية الديمقراطية نجد اختلافا فى المفهوم وفى التطبيق بين بعض تجارب العلمانية الأوروبية وبين التجربة العلمانية الأمريكية، فكيف بتجارب الصراعات على الحكم باسم الدين الإسلامى على مدى أكثر من 14 قرنا؟!
إن الاختلاف الفكرى بين الناس هو ظاهرة صحية حينما تحصل فى مجتمعات تصون التعددية الفكرية والسياسية وتسمح بالتداول السلمى للسلطة وباحترام وجود ودور «الرأى الآخر». وهى مواصفات وشروط لمجتمعات تعتمد الحياة السياسية الديمقراطية، وتكون مرجعيتها هى القوانين والدساتير المجمَع على الالتزام بها بين كل الأطراف. فلا ينقلب طرف على الآخرين وحقوقهم أو على الدستور ذاته بمجرد الوصول إلى الحكم!
•••
بعض الأوطان العربية يعانى الآن من ثنائية تحديات تجمع بين خطر التدخل الخارجى وخطر الصراعات الداخلية، بل مخاطر الحرب الأهلية. فهى هنا ثنائية مشكلة دور الخارج وانقسامات الداخل، بينما أوطانٌ عربية أخرى تمر فى ظروف سياسية تبرز فيها أعطاب الحكم والمعارضة معا. فلا الناس راضون عن الحاكم ولا هم مقتنعون أيضا بالمعارضة البديلة. فهذه الأوطان تعيش ثنائية مشكلة الحكم والمعارضة معا.
حتى فى البلاد التى لا تعانى من ثنائية تحديات الخارج وانقسامات الداخل، أو من ثنائية أزمة الحكم والمعارضة، نجد الاختلال فى ثنائية عدم توافر العدل السياسى والعدل الاجتماعى معا.
أيضا، نلمس الآن ثنائية أزمة الهويتين الدينية والثقافية فى المجتمعات العربية، حيث أصبحت الهوية الدينية والهوية الإثنية وكأنهما نقيض للهوية القومية العربية وفى مواجهتها، بل أضحت الأولوية الآن للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء إلى الدين الواحد والقيَم المشتركة بين كل الأديان.
للأسف، هذه الثنائيات فى الواقع العربى الراهن يُلازمها مرض عربى مزدوج أيضا يقوم على أحادية التفكير من جهة، وعلى ازدواجية المعايير من جهة أخرى، وهو مرض ليس وليد الحاضر أو الماضى القريب فقط، بل هو محصلة لتراكم كمى فى الأوضاع السياسية على امتداد قرونٍ زمنية طويلة، نحصد نتائجه حينما تشتد تحديات الخارج إذ تظهر عندها بصورةٍ جليةٍ أكثر مساوئ وأعطاب الداخل فى مواجهة هذه التحديات.
ولعل أخطر التوصيفات للحروب والصراعات يحدث حينما يحصل استغلال أسماء دينية ومذهبية لوصف حروب ونزاعات هى بواقعها وأهدافها سياسية محضة، وهذا ما يجرى عادة فى الحروب الأهلية التى تُسخر فيها كل الأسلحة بما فيها سلاح الطائفية السياسية. فالفاعل الآن فى الأزمات العربية هو مجموعة من الجهات الإقليمية والدولية التى قد تتباين مصالحها، لكنها تتفق على هدف جعل الأزمات العربية تأخذ أبعادا طائفية ومذهبية وإثنية.
•••
إن المنطقة العربية مهددةٌ الآن بثنائية مشروعين يخدمان بعضهما البعض: مشروع التدويل الغربى لأزمات عربية داخلية، ومشروع التقسيم الصهيونى لأوطان وشعوب المنطقة. وما تقوم به جماعات التطرف الدينى العنيفة يساهم بتحقيق المشروعين معا فى ظل غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.
إن واقع الحال العربى الآن لا يحمل رؤية عربية مشتركة فاعلة لمستقبل أفضل، ولا يقوم على مرجعيات فكرية وسياسية سليمة فى معظم الأحيان والحالات، لكن المدخل الصحيح لمعالجة هذا الواقع هو توافر الفكر السليم الذى يقود ويحرك طاقات القائمين به. فالأمة العربية تحتاج الآن إلى رؤية فكرية مشتركة تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزز معا، وفى وقتٍ واحد، الإيمان الدينى الرافض للتعصب والفتنة، ثم الولاء الوطنى على حساب الانتماءات الضيقة الأخرى، كما هى الحاجة أيضا لتأكيد الهُوية العربية فى مجالات التعبير المختلفة عنها داخل المجتمعات وبين الحكومات.
الأمة العربية تحتاج إلى مشروع فكرى نهضوى متكامل يقوم على التلازم والترابط بين أهداف الديمقراطية والتحرر الوطنى والعروبة والعدل الاجتماعى. وبتوافر هذا المشروع، والمؤسسات والأفراد العاملين من أجله، يمكن بناء مستقبل أفضل للأوطان وللشعوب معا، وبه أيضا يُصلَح الخلل فى مواجهة ثنائية التحديات الداخلية والخارجية.

التعليقات