من الأمور التى يتنازل عنها العرب فى عصرنا هذا، توثيق تراثهم العالمى والافتخار به، والترويج له، على الرغم من مشاركتهم فى تطوير الكثير من الأشياء التى دخلت فى سجل التراث العالمى. هنا تبدو قصة انتشار البن فى صدارة القصص التى يجب أن تحكى وتحفر فى الذاكرة العالمية، ففضلا عن التأكيد على الدور العربى فى نشر اكتشاف البن وصناعة القهوة ونشر ثقافتها عالميًا، تبدو صناعة هذه القصة عربية شارك فيها أكثر من قطر عربى، فتقف كدليل على إمكانات التعاون المشترك بين الأقطار العربية على المستوى الاقتصادى والثقافى لإبداع ظواهر لا توحد مزاج الشعوب فقط، بل تضع بصمتهم على الثقافة العالمية كلها.
انتشار مشروب القهوة العربية فى العالم، جاء بمجهود عربى مشترك، فالبداية من بلاد اليمن التى عرف فيها البن والقهوة لأول مرة. وأهل اليمن أول من أطلقوا على الشجرة وثمارها مسمى "البن"، وعند تحويلها إلى شراب تسمى "قهوة"، والتسمية الأخيرة انتشرت من العربية إلى مختلف لغات الدنيا.
يثبت الاسم أن هذه التسمية عربية لا شك فيها، على الرغم من أن بعض الأصوات تقول إن أصل شجرة البن من إثيوبيا، فإن زراعتها وانتشارها كمشروب لم يعرف إلا فى اليمن، حيث لعبت الجماعات الصوفية دورًا رئيسيًا فى نشر ثقافة تناول القهوة، عبر شبكة من الحركات الصوفية المترابطة والمنتشرة على رقعة العالم العربى كله.
اللافت هنا إطلاق مسمى القهوة على مشروب البن، وهو مسمى عربى أصيل كان من أسماء الخمرة قديما، لكن استخدام المسمى كان من باب التسمية بالضد على عادة العرب، فإذا كانت الخمر تذهب العقل فالبن يعمل على تنبيه العقول، وهى عادة عربية قديمة بتسمية الشىء بنقيضه، كتسمية الفتاة شديدة الجمال بالـ قبيحة.
لعبت مصر دورًا أساسيًا فى نشر ثقافة البن واحتساء القهوة، بداية من أواخر العصر المملوكى، فمنطقة الحجاز كانت تابعة لمصر وقتذاك، وتحت أعين أمراء المماليك بدأت ثقافة احتساء القهوة تدخل مكة المكرمة عن طريق الحجاج اليمنيين. فالتقارير المرسلة من الحجاز إلى سلطان المماليك فى مصر، تتحدث عن جلسات يشرب فيها المجتمعون مشروبًا جديدًا فى ما يشبه جلسات شاربى الخمر، وأن المشروب الجديد يُباع فى أماكن تشبه الخمارات، ثم سرعان ما انتشر شربها فى القاهرة، وهنا بدأت السلطات فى منعها اعتقادًا أنها فى حكم الخمر.
وبدأ بعدها جدال فقهى كبير استمر لمدة قرن كامل، بحسب محمد الأرناؤوط فى دراسته (التاريخ الثقافى للقهوة والمقاهى)، حول تحريم مشروب القهوة أو تحليل شربه، وصدرت كتب عدة تدافع عن القهوة أو تهاجمها بلا تحفظ. وانتقل هذا الجدال إلى الدولة العثمانية التى سيطرت على مصر ومعظم العالم العربى منذ العام 1517، لكن إسطنبول لم تقاوم سحر القهوة العربية كثيرا، فسقطت فى غوايتها، كما القاهرة من قبل، فأصبحت فى المدينتين أعداد لا نهائية من الحوانيت التى تقدم المشروب، ضاربة عرض الحائط بفرمانات التحريم. ومن هنا ظهرت إلى الوجود «المقاهى»، وهى الأماكن المخصصة لتقديم وشرب القهوة.
وبحسب دراسة الدكتور ناصر إبراهيم (آداب وطقوس شرب القهوة فى القاهرة العثمانية)، أصبح البن سلعة استراتيجية، إذ أصبحت مصر منصة تصديره إلى أوروبا، عبر استيراده من اليمن وتجميعه فى مصر وتصديره، بجوار إنتاج مصر الضخم من السكر المستخلص من القصب. اللافت هنا أن استهلاك المصريين للبن كان كثيفا، إذ لم تتم إعادة تصدير إلا ربع ما يتم استيراده من اليمن، أى أن أغلبية الكمية كانت تستهلك داخل مصر التى وقع أهلها فى غرام القهوة.
على الرغم من كل تلك التفاصيل التى تؤكد عربية البن والقهوة، فإنها لا تكاد تذكر، بل يقدم باسم» القهوة التركية«، فدور الدولة العثمانية فى نشر هذا المشروب أوروبيًا معروف، وإن كانت مصر لعبت الدور نفسه تقريبا، خصوصًا أن تصدير البن لأوروبا كان يمر عبر مصر. لكن لا مبرر لعربى أن يطلق على مشروب اكتشفه العرب وصنعوه واخترعوا تقاليد شربه والاستمتاع به وتفننوا فى صناعته بأكثر من شكل وطريقة، مسمى آخر غير مسمى القهوة العربية.
هذه صورة أساسية من صور الاعتزاز بالذات، وتقوية الارتباط بالتاريخ بجانبه الإبداعى، وصنع هوية إيجابية قائمة على التعاطى الحضارى، وهى روح نحتاجها بشدة فى هذه الأيام.
حسن حافظ
موقع عروبة 22
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/5cddnjsj