الحدود الوهمية الفاصلة بين تخييل الذات والتعبير عن الخوف المطلق فى رواية اللبنانية هدى بركات الجديدة «هند أو أجمل امرأة فى العالم» - إبراهيم العريس - بوابة الشروق
الخميس 7 أغسطس 2025 10:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

الحدود الوهمية الفاصلة بين تخييل الذات والتعبير عن الخوف المطلق فى رواية اللبنانية هدى بركات الجديدة «هند أو أجمل امرأة فى العالم»

نشر فى : الخميس 7 أغسطس 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الخميس 7 أغسطس 2025 - 7:50 م

قبل أسابيع قليلة نشرنا فى هذه الصفحة نوعا من مقدمة كان مطلوبا منها أن تشكل مدخلا لقراءة ما لعدد من روايات عربية صادرة حديثا. هنا على أية حال، وبعد تأخر أسابيع فرضته أحداث معينة تناولناها فى حينه، نستعيد هذا «المشروع الصغير» الذى ينطلق بالنسبة إلينا من توقف عند بعض سمات «تخييل الذات» فى الرواية الحديثة، وتحديدا من خلال رواية قد تبدو كثيرا، أو لا تبدو أبدا، منتمية إلى النوع إلا بصورة مقحمة، كما سوف نرى، وهى رواية الكاتبة اللبنانية هدى بركات «هند أو أجمل امرأة فى العالم».


فى قصيدة تنتمى إلى التراث الشعرى الصينى اقتبسها شاعر لبنانى ونسبها إلى نفسه فاعتبرها كثر(!) من أجمل وأرق ما كتب: «حلمت فتاة أنها فراشة وحين أفاقت لم تعد تدرى أهى فتاة حلمت أنها فراشة أم فراشة تحلم الآن أنها فتاة؟». لسنا ندرى ما إذا كانت هدى بركات تحفظ هذه القصيدة، ولكن يفترض أنها كان يمكن أن تكون فى بالها وهى تكتب روايتها الجديدة هذه. ودون أن يكون هناك أى مبرر لهذا الافتراض سوى أن قارئا من نوع خاص قد يتساءل وهو يقرأ هذه الرواية الممتعة فى قسوتها والجميلة فى قبحها عما إذا كان يقرأ حقا ما تحكيه هنادى عن هند أو أنه يقرأ خفية ما قد يمكن أن تكون هند قد انكبت على تدوينه معبرة عن كابوس ما تخشى أن تعيشه يوما. فالحقيقة أن السمة الأبرز والأكثر بورخيسية فى رواية هدى بركات هو ذلك الالتباس فى «العلاقة» بين شخصيتى هنادى وهند، الأختين اللتين لم تلتقيا أبدا. بل ربما تكون إحداهما من نسيج خيال الأخرى، مرورا بأسطرة الأم – أم الفتاتين – لجمال أولاهما وموتها غيظا ورعبا إزاء قبح الثانية، إلى درجة أنها أخفتها زمنا طويلا فى علية المطبخ فى بيت البؤس الذى سكنته الأم وابنتها حتى قبل أن تدخلنا هدى بركات فى الرواية.


هنا قد يخطر فى بالنا سؤال، كثيرا ما كان يمكننا أن نطرحه عند قراءة روايات أخرى، رائعة وشديدة الالتباس بدورها، لهدى بركات نفسها ونخص بالذكر رائعتين أخريين لها: «أهل الهوى» و«ملكوت هذه الأرض»: أين هى هدى بركات هذه المرة؟ لماذا «هذه المرة؟» ببساطة لأن الأحرف الأساسية فى اسمى هند وهنادى تقترح علينا فرضيات عديدة ومتناقضة قد تصل بنا إلى حدود تخييل الذات. لكنه ليس تخييلا جسديا بل رمزى، ورمزى بالتحديد لأنه قد يحيلنا، طالما أشرنا إلى الأرجنتينى بورخيس والتباساته، إلى أرجنتينى آخر هو خوليو كورتازار ولا سيما فى قصصه التى يستحيل على قارئها أن يعرف أين هى الحدود بين ما هو متخيل فيها وما هو واقعى. حسنا لن نتوقف طويلا عند هذه الجزئية. هنيهة بالكثير لنشير إلى أن ثمة هنا اقتراحات تتعلق بعلاقة هدى بركات بالشخصيتين اللتين تقدمهما وكأنهما حينا واحدة بل كناية عن مخاوف من مصير متخيل، وحينا تمازج مرعب بين الأم نفسها و... مدينة بيروت. بالنسبة إلى كاتب هذه السطور ولأنه يعرف أن هدى بركات لا يمكن أن تكون قد عبرت عن نفسها من خلال تشوهات هنادى، صاحبة مرض «الأكروميغاليا» (تضخم الأطراف وتشوهات الجسد الهرمونية – ما يذكر على أية حال بسينما دافيد كروننبرج التى لا شك أن بركات تعرفها جيدا)، كما أنها لا يمكن أن تكون قد استعارت لتخييل ذاتها روعة جمال هند. هى ربما أرادت هنا فقط ولأن هند «اختفت» باكرا... لربما أرادت أن تتماهى مع الجانبين المكانيين: بيروت بأقبح ما فيها وقد أصيبت بدورها بنوع كونى – اجتماعى من ذلك المرض نفسه، وباريس التى عرفت هنادى ورغم كل ما بها، الحب فيها وعرفت البؤس مشوهة بذلك حلما داعب هنادى ذات لحظة وكان يليق بهند ذات لحظة أخرى، وفضلت عليه الكاتبة فى نهاية الأمر إعادة بطلتها إلى بيروت وتلك الزاوية القذرة من منطقة النهر فى الفضاء الأكثر تفاهة من تلك المدينة التى كانت يوما «بيروت أجمل مدينة فى العالم».


طبعا ليس ثمة مجال كبير لرواية أحداث «هند أو أجمل امرأة فى العالم» هنا، ولكن يمكن على أية حال التوقف عند ثنائيات كثيرا ما بدت عزيزة و«ضرورية» على قلب هدى بركات. ثنائيات يمكن رصدها والتفاعل معها وصولا حتى إلى ذلك المشهد الأخير - والرائع– الذى تختتم به الفصل الأخير من روايتها السابقة «ملكوت هذه الأرض» حيث بعدما عيّشت الكاتبة قارئها فى طول وعرض الحرب اللبنانية وتكوينها هى الخاص خلال سنوات عديدة من تلك الحرب الحرب الأهلية – التى هى من جانبها لا تعتبرها من حروب الآخرين على أرض لبنان بالتأكيد - انتهت بالأخ والأخت «بطلى» الرواية، فى لحظة فشل ختامية إثر إفهام القارئ كيف أنهما خسرا كل شىء، انتهت بهما وحيدين ولكن فقط من خلال واحد من أكثر مشاهد الفشل سعادة فى مجمل أدبها حين يغنى الأخ وهو يعزف على عوده تلك السطور الحزينة وهى تستمع إليه بكل شغف وحزن وفرح. هو مشهد يعترف كاتب هذه السطور بأنه أسال من عينيه كمية كبيرة من الدموع غير دار ما الذى يفعله ساعتين بعد منتصف الليل بالكتاب وقد أنجز قراءته وتاه عما يمكنه أن يفعله به الآن. وليعترف – كاتب هذه السطور أيضا – بأن ما أنقذه من مشهد مشابه فى «هند أو أجمل امرأة فى العالم»، كون الكاتبة قد سرّعت من وتيرة أحداث روايتها بشكل غير مفهوم منذ اكتشاف هنادى مصير أبيها بفضل الانترنت والكمبيوتر وبدا عليها استعداد سينيكى رواقى لتقبل آخر لحظات مصيرها بعدما تغلغل إليها توحد تلك الثنائيات التى هيمنت على رواية حياتها، وربما شكلت جوهر سيرتها من ازدواجية حبيبها الوحيد، العربى/الفرنسى رشيد/فرانسوا، إلى ازدواجية حاميتها غلوريا/عبدول، إلى ازدواجية الأم/القطة زكية بل حتى الأم /أم منصور... (ولم ليس باريس/ بيروت؟) وهى كلها ثنائيات ربما أتت فى نهاية الأمر على شكل تنويعة على الثنائية الأساسية هند/هنادى… ولم ليس، هذه المرة على الثنائية وقد تحولت إلى ثلاثية هند/ هنادى/ هدى... (ولو لتبرير ربطنا رواية هدى بركات هذه بما نتوخى قوله حول أدب «تخييل الذات» كما كنا وعدنا القارئ بالحديث عنه فى المقال التمهيدى الذى نشرناه فى «الشروق» هنا قبل أسابيع وسنعود إليه فى مناسبتين لاحقتين فى المكان نفسه)، وهذه المرة هنا طبعا بصوت هنادى «أقبح امرأة فى العالم»، كما نقلته هدى بركات فى أكثر من 300 صفحة لعل أبشع ما فيها ردود فعل بعض المعلقين والمعلقات على الكتاب، وبخاصة من أبناء ثقافة المواقع الاجتماعية الضحلة من الذين لم يسئهم فى الرواية البركاتية الجديدة إلا كونها ربحت جائزة كبرى، فأسهبوا إسهابا مملا فى الحديث عن طول الرواية و«أسلوبها الممل» وما إلى ذلك. فذكرونا بما كان الراحل الكبير محمود درويش يقوله لنا يوما من أن علينا، فى حياتنا الثقافية العربية، أن نتجنب النجاح لأنه يخلق لنا من العداوات ما قد يكون أكثر قسوة من عداوة الأعداء الحقيقيين.

إبراهيم العريس إبراهيم العريس
التعليقات