ضمير قاضية أسترالية - محمد بصل - بوابة الشروق
الخميس 7 أغسطس 2025 10:41 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

ضمير قاضية أسترالية

نشر فى : الخميس 7 أغسطس 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الخميس 7 أغسطس 2025 - 7:50 م

اسمها «بليندا ريج» وهى السيدة التى صنعت الفارق فى المشهد التاريخى للأعلام الفلسطينية فوق جسر ميناء سيدنى. حيث احتشد الأستراليون فى مسيرة داعمة للقضية الفلسطينية وشعب غزة فى مواجهة الإبادة الجماعية الممنهجة.

يقدّر البعض أن مسيرة الأحد الماضى التى عبرت جسر ميناء سيدنى العملاق، أصبحت الأضخم فى تاريخ «الدولة القارة» بمشاركة نحو 90 ألف شخص. وانعكست خيبة اللوبى الصهيونى وغضبه من الحراك الشعبى اللافت فى تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلى جدعون ساعر وزعيم المعارضة يائير لابيد اللذين هاجما المسيرة ومنظميها، وفى تغطية الصحف العبرية مثل «يديعوت أحرونوت» التى ركزت على لافتات حملها المتظاهرون تشبه جيش الاحتلال بالنازى وبنيامين نتنياهو بأدولف هتلر.

وبينما كانت المسيرة تلفت أنظار الملايين فى أقصى أطراف الأرض إلى إبادة غزة وضرورة التدخل الفورى لإنقاذ البشر بفك الحصار المطبق وضخ المساعدات الكافية ووقف مخطط ضم القطاع، مضت الحسابات الصهيونية عبر مواقع التواصل الاجتماعى فى حملة محمومة تحاول التصدى للمد الشعبى الغاضب، وتعيد تخويف المجتمعات الغربية عامةً، والمواطن الأسترالى بصفة خاصة، من حكم حماس وطالبان والقاعدة وقمع الحريات والاستبداد وتصوير كل ما سبق كمعادل حتمى لنصرة الإنسان الفلسطينى.

خلال حرب الإبادة الحالية تحولت أستراليا إلى ساحة حرب دعائية وقانونية بين المجموعات الصهيونية والإسلاميين واليساريين داعمى غزة، لاسيما حول «الخطاب المناسب لنقد إسرائيل».

مناخٌ متوتر، تجلّى فى حكم مهم صدر مطلع يوليو الماضى من المحكمة الفيدرالية (الأعلى فى البلاد) بإزالة مقاطع فيديو لخطب الداعية الإسلامى وسام حداد ضد الاحتلال، بدعوى تضمنها عبارات «عنصرية ومعادية للسامية» مع إلزامه بـ«عدم تكرار إلقاء خطابات عامة مماثلة تقرن نقد إسرائيل بمهاجمة اليهود كعرق وديانة» وفى الحكم ذاته قالت المحكمة إن «النقد السياسى لإسرائيل مهما كان تحريضيًا أو عدائيًا لا يكون مخالفًا طالما لم ينتقد الهوية العنصرية أو العرقية».

وعلى خلفية هذا الصراع حاولت الهيئات الصهيونية عرقلة مسيرة سيدنى بمختلف الطرق، واقتربوا من تحقيق مآربهم عندما رفضت الشرطة طلب المتظاهرين بتسهيل إقامة المسيرة، بحجة ضيق الوقت والتخوف من تدافع الجماهير بأعداد كبيرة قد تؤدى إلى وقوع ضحايا، فضلًا عن اضطراب حركة الطرق والمواصلات العامة فى بيئة لم تعتد هذه الفعاليات.

هنا تلقت القاضية بليندا ريج، بالمحكمة العليا لولاية نيو ساوث ويلز، دعوى من المتظاهرين ضد قرار الشرطة.

كانت ريج أول امرأة تشغل منصب «كبير المدعين العامين» بالولاية عام 2019 ولاقت ترحيبًا واسعًا لجهدها الواسع فى مجال التثقيف القانونى واهتمامها بقضايا الأطفال والاعتداء الجنسى وحماية الشهود، ثم عُينت العام الماضى قاضية بالمحكمة العليا.

كان عاديًا فى أستراليا أن تقبل بليندا دفوع الشرطة، البعيدة نظريًا عن السياسة ولها ما يبررها من الصالح العام كانتظام المرافق وتقليل تكلفة التأمين والحراسة، وعلى الأقل منع غلق جسر حيوى بالعاصمة خمس ساعات كاملة.

لكن بليندا وهى تكتب قرارها بالسماح للمسيرة ورفض جميع دفوع الشرطة بما فى ذلك فرض مسارات معينة للمتظاهرين، أبت إلّا أن تعطى درسًا حقوقيًا رفيع المستوى من وجهين:

الأول مستمد من الواقع الميدانى والقانون الدولى الإنسانى، فاعتبرت أن «الوضع المرعب والملحّ فى غزة يتطلب استجابة عاجلة وغير عادية من شعوب العالم».

والثانى يستند إلى المنظومة التشريعية المحلية وما وقعت عليه أستراليا من معاهدات واتفاقيات تتعلق بحقوق الإنسان، فنجدها- ببصيرة الحريص على مصلحة وطنه - تؤكد أن «حرمان هذه المجموعات من فرصة التظاهر فى تجمع عام ومرخص سيؤدى حتمًا إلى الاستياء والعزلة resentment and alienation» مما يعزز «ضرورة الاهتمام بحرية التعبير فى هذا الوقت تحديدًا».

طبقت بليندا القانون بعقل حكيم وروح إنسانية، وعندما وضعت حق المواطن نصب عينيها، كانت تهدف إلى حماية فئات من المجتمع الأسترالى من تبعات الكبت، فتنعكس على المجتمع كله بالاضطراب والتطرف أو انتشار خطاب الكراهية والعنف.

ولم تُلق بالًا بالهجوم المتوقع الذى شُن عليها بالفعل من المواقع والحسابات الصهيونية حول العالم ومن الجمعيات المحلية الناشطة وعلى رأسها المجلس الوطنى للنساء اليهوديات الذى اتهمها فى تدليس معتاد بـ«السماح بنقل الصراعات الخارجية إلى شوارع أستراليا».

ومع تنامى الصحوة العالمية ضد إسرائيل، وإذا اعتبرنا أن انتشار السردية الفلسطينية دوليًا أبرز المكاسب خلال الأشهر السوداء الماضية، فالشعوب مازالت تعقد آمالها على نماذج مثل فرانشيسكا ألبانيزى وبليندا ريج وغيرهما من أصحاب الضمائر الحيّة فى أحلك الأوقات.

محمد بصل مدير تحرير الشروق - كاتب صحفي، وباحث قانوني
التعليقات