فى ضوء التنافس التكنولوجى المتصاعد بين القوى الكبرى على ريادة مستقبل الذكاء الاصطناعى، ظهرت مرحلة جديدة فى مسار هذا التطور؛ تمثلت فى بروز ما يعرف بـ«وكلاء الذكاء الاصطناعى» (AI Agents). هذه الأنظمة شبه المستقلة صممت لأداء سلسلة من المهام المعقدة ضمن بيئات تفاعلية ديناميكية، وبدرجة متزايدة من التخطيط والتنفيذ الذاتى؛ متجاوزة بذلك القدرات التقليدية للنماذج اللغوية LLMs.
وقد كان الإعلان عن وكيل Manus AI، الذى أطلقته شركة Monica AI الصينية فى السادس من مارس 2025، إيذانا بمرحلة نوعية فى هذا المسار؛ إذ لا ينظر إلى «مانوس» كمجرد حلقة إضافية فى سلسلة تطورات الذكاء الاصطناعى، بل كتجسيد ملموس لطموح بكين الاستراتيجى فى إعادة تعريف حدود المنافسة على الذكاء الاصطناعى الوكيلى. فبينما تهيمن الولايات المتحدة على إنتاج النماذج اللغوية المتقدمة، يبرز «مانوس» بمقاربة هجينة تدمج النماذج اللغوية كـ«عقل» مع الخوارزميات التنفيذية المستقلة كـ«يد»؛ ما يجعله نواة لنموذج صينى أوسع يسعى إلى «التوطين المجتمعى» للذكاء الاصطناعى، من خلال الاعتماد على نماذج لغوية متوفرة كتطبيقات خارجية، مثل «كلود 3,5 سونت» التابع لشركة أنثروبيك الأمريكية، و«كوين» التابع لشركة على بابا الصينية؛ حيث يوظفها ضمن بنيته التحتية؛ فى تجسيد عملى لمقاربته الهجينة.
وفى استجابة مباشرة لهذا الزخم المتصاعد، لا سيما فى ظل التحولات الصينية المتسارعة، أطلقت شركة «أوبن إيه آى»، التى تتخذ من سان فرانسيسكو مقرا لها، فى 17 يوليو 2025، وكيلها المتقدم ChatGPT Agent. وقد شكل هذا الإعلان نقطة تحول فارقة فى مسار «تشات جى بى تى»؛ إذ انتقل من مجرد نموذج لغوى إلى وكيل ذكاء اصطناعى متكامل، يجمع بين قدرات الفهم والإبداع والتنفيذ.
وهنا يثار تساؤل جوهرى هو كيف تكشف نماذج الذكاء الاصطناعى الوكيلى، التى ظهرت مؤخرا، عن ملامح التنافس الدولى فى هذا المجال، وما أبرز التداعيات التى تترتب على اختلاف بنياتها وتقنياتها؟
• • •
تمثل بنية «مانوس إيه آى» ابتعادا عن أنظمة الذكاء الاصطناعى التقليدية التى تعتمد على نماذج لغوية كبيرة LLM. فاسمه المشتق من العبارة اللاتينية Mens et Manus «العقل واليد» يعكس بنيته المزدوجة؛ فخوارزميات نماذج اللغة الكبيرة تعمل بمثابة «العقل» للتفكير والتخطيط، بينما الخوارزميات القطعية تمثل «اليد» لتنفيذ الإجراءات. ويتيح هذا التصميم لـ«مانوس إيه آى» تنفيذ المهام بشكل مستقل، والتكامل مع الخدمات، ومعالجة البيانات، وإجراء العمليات بأدنى حد من التوجيه البشرى، وذلك بخلاف النماذج اللغوية السائدة فى السوق سواء أكانت أمريكية، أوروبية أم حتى يابانية، والتى تقتصر على توليد الاستجابات استنادا إلى هندسة أوامر معقدة متوالية، تبنى خطوة بعد أخرى بطريقة تراكمية.
وبالرغم من الإمكانات اللافتة التى أظهرها «مانوس إيه آى» فى أعين العديد من المراقبين؛ فإنه يواجه قيودا تقنية تعوق أداءه واستقراره؛ إذ يبلغ المستخدمون عن أعطال متكررة وضعف فى استقرار النظام، خصوصا مع الاستخدام المطول، بالإضافة إلى صعوبات فى الوصول إلى المحتوى المحجوب وتجاوز رموز التحقق Captchas التى تتطلب إثبات هوية المستخدم كبشرى. كما أن إصدار «مانوس» عند إطلاقه كان محدودا جدا؛ إذ وصل أقل من 1% فقط من المستخدمين عبر قائمة الانتظار؛ ما يعكس حذرا واضحا فى طرحه للسوق. وفى ضوء هذا الإطلاق الحذر، أعلنت الشركة عن خطط اشتراك مدفوعة تبدأ بسعر 39 دولارا شهريا، تمنح المستخدمين 3900 نقطة مع إمكانية تنفيذ مهمتين فى وقت واحد، وتتصاعد إلى خطة عليا بقيمة 199 دولارا شهريا توفر 19900 نقطة؛ وهو ما يجعلها تنافس خطط الاشتراك المميزة مثل تلك الخاصة بـ«تشات جى بى تى».
كما تعكس نماذج التسعير التى اعتمدتها «مونيكا» فى طرح «مانوس إيه آى» انخراطا متزايدا فى نمط اقتصادى بات يعرف بـ«رأسمالية الاشتراك»؛ حيث تحول الخدمات المعرفية إلى سلع رقمية تباع ضمن أنظمة دورية مغلقة، يتم فيها تأطير الوصول إلى الذكاء الاصطناعى عبر أنظمة نقاط، وخطط شهرية، وقيود متدرجة على عدد المهام المسموح بتنفيذها. ورغم أن هذه الآلية ليست حصرية لـ«مانوس»، بل تعد سمة شائعة فى معظم النماذج اللغوية والوكلاء الأذكياء السائدين؛ فإن حالة «مانوس» تجسد بوضوح أكثر الأثر الهيكلى لهذا النموذج على إعادة توزيع فرص الوصول والمعرفة.
إلى ذلك، وبرغم هذه الخطوات؛ تبرز هذه التحديات الفنية لتسلط الضوء على الفجوة الكبيرة القائمة بين الوكلاء الأذكياء الحاليين وأنظمة الذكاء الاصطناعى العام الذى لا يزال مفهوما نظريا قيد التبلور، ويتجاوز القدرة على أداء مهام محددة إلى تعميم المعرفة عبر مجالات متعددة، والانخراط فى تعلم مفتوح يتجاوز المهام المحددة، فضلا عن التفكير السببى وفهم المدخلات الحسية للعالم المادى. كذلك يفتقر «مانوس» إلى الذكاء الاجتماعى وفهم المعايير الثقافية التى تمثل جانبا أساسيا من الذكاء العام.
• • •
يحمل ظهور وكلاء الذكاء الاصطناعى ضمن النظام التكنولوجى الاستراتيجى للذكاء الاصطناعى فى الصين تداعيات عميقة لقيادة التكنولوجيا العالمية والعلاقات الدولية، وتتجاوز أهميته الجوانب التقنية لتشمل أبعادا استراتيجية متعددة، ويمكن تفصيلها كالتالى:
1- التفرد الصينى فى الذكاء الاصطناعى: عقب إثبات «ديب سيك» منذ ظهوره اللافت فى يناير 2025 أن الشركات الصينية يمكنها إنشاء نماذج لغوية قوية بتكاليف أقل بكثير من نظيراتها الأمريكية، يشير «مانوس إيه آى» إلى أن الصين تكتسب زخما ــ أو بالأحرى تتفرد ــ فى جبهة جديدة ومهمة هى تطوير وكلاء الذكاء الاصطناعى المستقلين عبر «مانوس»، الذى يمثل باكورة استثنائية لهذا التفرد. ويأتى هذا التفرد فى سياق الخطة الصينية المعلنة منذ 2017، والتى تهدف إلى جعل الصين مركزا عالميا للابتكار فى الذكاء الاصطناعى بحلول عام 2030.
2- إعادة توزيع النفوذ التكنولوجى: يسرع التفرد الصينى وتيرة إعادة توزيع النفوذ التكنولوجى عالميا، فمع تزايد أهمية الذكاء الاصطناعى كعنصر محدد للقوة الوطنية فى القرن الحادى والعشرين، سيؤثر أى تحول فى موازين القوى بهذا المجال فى التنافسية الاقتصادية والميزة العسكرية للدول. ونتيجة لذلك، تواجه الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة ضغطا متزايدا لتسريع مبادراتها الخاصة بالتوازى. هذا الوضع يؤدى إلى تكثيف ما يصفه بعض المراقبين بأنه «سباق تسلح فى مجال الذكاء الاصطناعى»، وذلك فى ظل مشهد تتغير معالمه يوميا بفعل الابتكارات المتلاحقة؛ ما يعكس دينامية غير مسبوقة فى صناعة الذكاء الاصطناعى وتحولاتها الهيكلية المستمرة.
3-تحولات العلاقة بين الإنسان والآلة: بالنسبة للمستخدمين الأفراد والمؤسسات على حد سواء، يشير بروز وكلاء الذكاء الاصطناعى إلى تحول جذرى فى طبيعة التفاعل مع هذه الأنظمة. فبدلا من كون الذكاء الاصطناعى مجرد أداة للاستجابة أو المساعدة، بات ينظر إليه كمشارك نشط فى العمليات الإبداعية والتنظيمية. هذا التحول يحمل وعودا بإنتاجية أعلى وكفاءة محسنة؛ لكنه يثير فى الوقت ذاته تساؤلات أخلاقية ومعرفية عميقة حول الإرادة البشرية، خصوصية القرارات، وتغير طبيعة العمل. كما يستدعى إعادة التفكير فى حدود الاستقلالية التى يمكن أن تتمتع بها هذه الأنظمة دون المساس بالرقابة البشرية.
ختاما، يشير إطلاق «مانوس إيه آى» إلى أن الصين لم تعد تكتفى بملاحقة التطورات الغربية فى مجال الذكاء الاصطناعى، بل باتت تسهم فى إعادة تعريف ساحات المنافسة ذاتها. فبصفته وكيلا ذكيا يجمع بين الكفاءة التنفيذية والاستقلالية التشغيلية، ومقاربة هجينة تستفيد من بنى تحتية متنوعة، يجسد «مانوس» بوضوح استراتيجية بكين الرامية إلى تحقيق «التوطين المجتمعى» للذكاء الاصطناعى. هذا التحول يعنى أن المعيار الحاسم للهيمنة التكنولوجية لم يعد يقتصر على التفوق التقنى للنماذج اللغوية الخام فحسب، بل يمتد إلى مدى قدرة الدول على دمج أنظمة الذكاء الاصطناعى هذه (بما فيها الوكلاء الأذكياء) بعمق فى كيانها ومجتمعها. وبينما يتأرجح الغرب بين تطوير النماذج اللغوية العملاقة التى تركز على توليد المحتوى وقلق الحوكمة، ترسخ الصين موقعها عبر هذه الأدوات التكنولوجية الهجينة المتمثلة فى الوكلاء. ومع أن «مانوس»، شأنه شأن غيره من الوكلاء الحاليين، لا يمثل بعد الذكاء الاصطناعى العام (AGI)؛ فإنه يمهد لجيل جديد من الأنظمة القادرة على التفاعل النشط والتنفيذ المتعدد، بما قد يسرع تحولات المشهد التكنولوجى العالمى. وعليه، فإن المستقبل القريب قد لا يقاس فقط بحجم النموذج أو قدرته على توليد النصوص، بل بمدى ما يتيحه الوكيل من استقلالية فى الفعل، وتكامل فى الوظائف، وانخراط فى القرار. يضاف إلى ذلك، أن دخول ChatGPT Agent بقوة إلى هذه الجبهة الحديثة من الوكلاء الأذكياء، يؤكد احتدام المنافسة وتعقيدها، فى عالم تزداد فيه الأسئلة حول آليات التنظيم والسباق بين هذه الأنظمة المتقدمة.
رامز صلاح
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/ypcwa88a