أصول الاضطرابات والغضب في فرنسا - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 11:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أصول الاضطرابات والغضب في فرنسا

نشر فى : السبت 8 يوليه 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : السبت 8 يوليه 2023 - 7:45 م

أدَّى مقتل الشاب نائل مرزوقى يوم الثلاثاء 27 يونيو الماضى فى مدينة نانتير، وهى من ضواحى العاصمة الفرنسية باريس، إلى اندلاع الاضطرابات فيها. أوقف شرطى فرنسى السيارة التى كان يستقلها نائل مع شاب آخر وطلب منه إثبات شخصيته. لم يمتثل نائل فأطلق الشرطى النار عليه وأرداه قتيلا. سرعان ما امتدت الاضطرابات إلى شمال ووسط وجنوب وغرب البلاد، إلى المدن الكبيرة والصغيرة فيها. هاجم الغاضبون على مقتل نائل رموز الدولة فى فرنسا، ومنها الشرطة نفسها، أقسامها ومركباتها، ومقار رئاسة المدن، بل والمدارس، ووسائط النقل العام، وامتد غضب المتمردين إلى الممتلكات الخاصة فأحرقوا السيارات مثلا. وما هما يومان إلا واتخذت الاضطرابات شكل أعمال الشغب، فاعتدى الغاضبون ومن اندس بينهم على المحال التجارية التى خرجوا منها بالبضاعة التى يحتاجونها أو كانت مجرد موجودة. هذه الصورة للاضطرابات التى خبرتها فرنسا فى الأسبوع الماضى هى صورة اعتداء على النظام العام وإخلال به، وضرر واقع على الملكية العامة والخاصة لا يمكن للقائمين على أى دولة القبول بها. هكذا اجتمع الرئيس الفرنسى برؤساء البلديات الذين هوجمت مقارهم أو لحقت الأضرار بمدنهم وشددت حكومته على سرعة إصلاح كل ما تلف. الحكومة ناشدت شركات التأمين أيضا سرعة تعويض الأفراد وأصحاب المنشآت ممن تلفت ممتلكاتهم أو اختفت البضائع من محالهم. وصرحت الحكومة للمحال التجارية بالعمل فى أوقات وأيام، كان المفترض أن تغلق فيها، حتى تعوِّض خسائرها. الشرطة الفرنسية قبضت على الآلاف من الغاضبين ومثيرى الشغب، والنيابة وجهت اتهامات إلى الكثيرين منهم، والقضاء أصدر أحكاما سريعة بحبس البعض، مع إيقاف التنفيذ، أو مع النفاذ، لشهور أو لعدد من السنوات غير الكثيرة.
هل تكفى الصورة السابقة للوقوف على الاضطرابات ولتبين إن كان يمكن أن تتكرر أم لا، وسبل الحيلولة دون تكرارها؟ الصورة لا تكفى، وينبغى الغوص إلى أصولها. أول هذه الأصول أن الاضطرابات الأخيرة ليست الأولى من نوعها. فى خريف سنة 2005، على عهد الرئيس جاك شيراك، اندلعت اضطرابات استمرّت لثلاثة أسابيع كانت شرارتها مقتل شابين فرنسيين، من خلفيات لأحدهما مغاربية والآخر غرب إفريقية، عندما صعقتهما الكهرباء لدى اختبائهما من الشرطة التى كانت تقتفيهما فى صندوق لتوزيع الكهرباء. عندها أعلنت حكومة الرئيس شيراك حالة الطوارئ فى البلاد.
• • •
إطلاق لفظ «الشباب» على الغاضبين محركى الاضطرابات فيه تجاوز فمتوسط عمر من وجهت النيابة الفرنسية اتهامات لهم كان 17 عاما، أى إنهم يندرجون فى عداد الأطفال وفقا للاتفاقية الدولية لحقوق الطفل. كثيرون ممن قبضت الشرطة عليهم كانوا فى عمر الثانية عشرة إلى الثالثة عشرة. قليلون من تعدّوا الثلاثين وأقل من تجاوزوا الثلاثينات من أعمارهم وإن كانوا هم الذين رفعوا من متوسط أعمار من وجهت النيابة إليهم اتهامات. متابعة الصحافة الفرنسية تكشف عن مناظير مختلفة للاضطرابات وأصولها. رجل شرطة قال إن اضطرابات الأسبوع الماضى كانت مفاجأة للجميع، وبيانه على ذلك أن شابا من أصول غرب إفريقية لقى مصرعه فى الأسبوع السابق فى مدينة أنجوليم الصغيرة فى جنوب شرقى فرنسا فى ظروف مشابهة لتلك التى قتل فيها الشاب نائل، ومع ذلك لم تقم الدنيا ولم تقعد. غير أن هذا الشرطى استدرك فقال إن الاضطرابات ربما رجعت إلى أن ضحية السابع والعشرين من يونيو وقعت فى نانتير بالذات فى تخوم باريس، وهنا بيت القصيد. نانتير مثل غيرها من المدن والأحياء فى محيط كل من العاصمة والمدن الفرنسية الكبرى تعج بالفقراء وأغلبيتهم من ذوى الأصول المهاجرة. بنات وأبناء هؤلاء ولدوا فى فرنسا ولم يعيشوا فى غيرها، وهم بالتالى ليسوا أجانب ولا هم مهاجرين. هؤلاء الأبناء كانوا الأغلبية الساحقة للغاضبين وإن لم يكونوا وحدهم تماما. البنات كنّ نادرات فى الاضطرابات، وهو ما يشبه، ويدعو للتفكر، ندرتهن فى حركة احتجاجية فرنسية أخرى، قريبة العهد، هى حركة أصحاب السترات الصفراء. حجم السكان فى نانتير سمح للغاضبين بأن يشكلوا كتلة حرجة انطلقت باضطرابات لفتت الأنظار، ما جعلها تنتشر من مدينة إلى أخرى ومن حى إلى آخر بسرعة غير معهودة، فما يعانى منه هؤلاء يقاسى منه أولئك فى المدن والأحياء المنكوبة. على عكس الشرطى المذكور، المدرسات والمدرسون الفرنسيون فى نانتير، وفى حى بابلو بيكاسو فيها، ويا لسخرية الاسم المطلق عليه، لم تفاجئهم الاضطرابات، ولا هى فاجأت غيرهم من العاملين الاجتماعيين فى المدن والأحياء الشبيهة. المدرسات والمدرسون المذكورون قالوا إن عوامل الانفجار كلها كانت موجودة. هم يلمسون يوميا الغضب واليأس اللذين يسكنان طلابهم. هؤلاء يعيشون فى مدن وأحياء تقل فيها الخدمات العامة وقد تنعدم وسائط النقل العام. فى إحدى المدن الصغيرة فى شمال باريس، يصل معدل الفقر إلى أربعين فى المائة. المدرسات والمدرسون أضافوا أن من طلابهم من يحققون نتائج مبهرة وينجحون فى الحياة، ولكن مدارس هذه المدن والأحياء، كلها تقريبا، من بين 25 فى المائة من مدارس فرنسا التى يحقق طلابها أضعف النتائج فيما يعادل امتحان الإعدادية التحريرى عندنا. ثلاثة أرباع هؤلاء الطلاب فى المرحلة المناظرة للإعدادية أهاليهم من العمّال أو خارج سوق العمل، وهى ضعف النسبة فى التعليم العام وأربعة أمثالها فى التعليم الخاص. تمثيلهم فى التعليم المهنى أعلى كثيرا من نسبتهم إلى من هم فى أعمارهم، وثلثهم يتسرب من التعليم، ونصف من يحصل على الشهادة من بينهم لا يحصل على عمل إلا خلال سنة من تخرجه. نحن نعلمهم قيم المواطنة، يضيف هؤلاء المدرسون، ولكن طلابنا يقولون إنهم لا يشعرون بها فى حياتهم اليومية، ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة، مبادئ الجمهورية النابعة من الثورة الفرنسية، يقول الطلاب إنهم لا يعيشونها.
غير أن العلاقة بين الشرطة وطلابهم هى أهم ما يذكره المدرسات والمدرسون. العلاقة سيئة للغاية والشباب فى هذه المدن والأحياء يشعرون بالإهانة والتمييز. لذلك فإنهم، حتى وهم لم يرتكبوا أى مخالفة، يفرّون بمجرد أن يروا الشرطة. مسح أجرى لحساب «المدافع عن الحقوق» الفرنسى فى سنة 2017 بيّن أن فرص أن تسأل الشرطة الشباب ذوى الأصول العربية والإفريقية إثبات شخصيتهم تصل إلى 20 مثلا سؤالها لمتوسط السكان من الشباب. هذا يمكن أن يفسر الصعق الكهربائى للشابين فى سنة 2005 وعدم امتثال نائل المرزوقى لطلب الشرطة، ما أفضى إلى مقتله. عالم السياسة الفرنسى أوليفييه روا يشدد على موقف الشرطة من الشباب فى المدن والأحياء التى يسكنها الفقراء كسبب للغضب والاضطرابات. روا يشير إلى أن ذوى الأصول غير الأوروبية بالملايين أيضا فى ألمانيا وبريطانيا ومع ذلك فالاضطرابات لا تصيب هذين البلدين. السبب فى ذلك فى رأيه هو أن الشرطة فيهما أكثر انضباطا، بينما الشرطة الفرنسية تمارس العنف مثلها فى ذلك مثل الشرطة الأمريكية. روا يذكِّر بالعنف الذى مارسته الشرطة الفرنسية ضد أصحاب السترات الصفراء، وهم فى أغلبهم من الفرنسيين البيض، ليقول إن العنصرية نفسها ليست ضرورية لتفسير الغضب والاضطرابات.
جدير بالذكر أن وزير الداخلية الفرنسى نفسه، وهو معروف عنه شدته وتشدده، صرّح بأن من بين 4,000 شاب وشخص قبض عليهم، 90 فى المائة فرنسيون، و40 شخصا فقط، أى واحد فى المائة، مهاجرون غير نظاميين لا يحملون وثائق رسمية. الاضطرابات إذن ليست قضية هجرة ولا مهاجرين. هى غضبة انفجرت من شباب يحيا التهميش الاقتصادى والاجتماعى نفسه، لا مطالب سياسية له ولا دينية، لم يحركه أحد، ولا قيادة له، وهو ما يمكن أن يشترك فى تفسير خمود الاضطرابات بعد زهاء أسبوع من اندلاعها. بعض مجموعات أقصى اليسار حاولت أن تدعو الشباب الغاضب فى المدن والأحياء المهمشة إلى أن تنصهر فى بعضها كل أشكال الاحتجاج والغضب، ولكن دعوتها لم تلق استجابة من الشباب الذى لم يتخذ لنفسه أى أهداف محددة ولا استراتيجية. يذكر أنه بالإضافة إلى أصحاب السترات الصفراء المتمردين على اللا مساواة المتزايدة فى المجتمع، عرفت فرنسا فى الشهور والأسابيع الأخيرة احتجاجات متواصلة على قانون جديد للمعاشات التقاعدية أخر سن الإحالة إلى التقاعد.
• • •
مثل كل يمين، اليمين الفرنسى شدد على حفظ القانون والنظام العام وإنزال العقاب بكل من يمسهما. اليسار أبرز الأصول الاقتصادية والاجتماعية للاضطرابات والغضب. أقصى اليمين طالب بإعلان حالة الطوارئ وبالنزول بسن القبض على الأطفال، وتقديمهم للمحاكمة، وبإنزال أقصى العقوبات بهم، وهو أراد بالطبع أن يصبغ الاضطرابات بصبغة عنصرية مفادها ازدراء المحتجين ذوى الأصول المهاجرة، وأنه لا مجال للتعايش معهم وإن كانوا مواطنين، متغاضيا عن أنه كان بين المحتجين مواطنون من أصول عرقية أوروبية وإن كانوا أقلية. فى بلادنا أيضا من رأوا فى الاضطرابات والغضب مسألة عنصرية بحتة، فالبيئة الفرنسية برمتها عندهم، ومعها بالطبع كل البيئات الأوروبية، بيئة عنصرية محضة لا سبيل للتغلب على العنصرية فيها، وهى عنصرية لا ينجو منها أحد. هؤلاء يتناسون أن كثيرين ممن هاجروا من بلادنا وذرياتهم نجحوا فى حيواتهم وتسلقوا السلم الاجتماعى بفضل جهودهم ومثابرتهم والفرص التى أتيحت لهم، على الرغم مما واجههم من عقبات. المجتمعات، وهى البيئات، ليست كلها خيرا، ولكنها ليست كلها شرا أيضا.
الرئيس إيمانويل ماكرون لم يستجب لدعوات أقصى اليمين، غير أنه حرص على استعادة الأمن والنظام العام، وإن لم يلجأ فى تحقيق ذلك إلى ممارسة أى عنف مفرط، وهو أعلن عن أنه سيتوجه بالحديث إلى الأمة الفرنسية بعد أن تخمد الاضطرابات.
الرئيس الفرنسى لم يتحدث بعد، ولكن المأمول، بعد أن يشدد من جديد على قيم المواطنة واحترام رموز الجمهورية، المأمول هو أن يعلن عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى ستتخذها حكومته لتفكيك غضب المواطنين الفرنسيين المهمشين، من ذوى الأصول المهاجرة وغيرهم، بإدماجهم فى مجتمعاتهم وتحقيق المساواة فى الفرص لهم.
الغضب لا عقل له ولا توقيت لانفجاره. على السلطات فى كل البلاد علاج أصوله توقيا من هذا الانفجار.

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات