المرحلة الجامعية هى من أهم فترات تكوين الشباب ليكونوا جاهزين لخدمة بلادهم، بل والإنسانية كلها فى بعض الأحيان. نحن أيضًا فى عصر تؤدى فيه الجامعات أبحاثًا علمية قد يكون لها مردود اقتصادى. مقالنا اليوم يتحدث عن الجامعات: ما الجامعات التى نحتاجها لتقدّم بلادنا؟ وهل خصائص الجامعة المتميزة هى نفسها فى كل مكان؟
أى: هل أفضل جامعة فى أمريكا هى بالضرورة أفضل جامعة عندنا؟ قبل أن نسترسل فى هذا الموضوع، أحب أن أدعو القارئ الكريم إلى مراجعة مقال سابق لكاتب هذه السطور بعنوان: «هل تصنيف الجامعات مهم حقا؟» بتاريخ 18 أبريل 2025.
نأتى الآن إلى السؤال الذى نريد مناقشته: إذا أردنا أن ننشئ جامعة أو جامعات تساهم فى تقدّم بلادنا، فما صفات هذه الجامعة؟ الأفكار التى سنطرحها هنا تنطبق على الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة.
قد يقول قائل: لنرَ ماذا تفعل الجامعات القوية فى الدول المتقدمة وننقل تجربتها. الأمر ليس بهذه السهولة، فالتعلّم من تجارب الآخرين ليس مجرد نقل «عميانى» للتجربة، بل يجب «تمصيرها»، لأن الجامعة تحمل جينات الدولة التى نشأت فيها، فالجامعات فى الخارج مختلفة عن الجامعات عندنا.
• • •
تخيّل أننا أحضرنا جامعة هارفارد العريقة، والتى أُنشئت قبل عيد الاستقلال الأمريكى بأكثر من قرن، ونقلناها من أمريكا إلى مصر، فهل ستنجح تلك الجامعة المرموقة فى إفادة البلاد، وفى الوقت ذاته تحقيق أرباح تساعدها على القيام بمهمتها؟ لنحلل هذا السيناريو المتخيَّل. لاحظ أننا نتخيّل أن هارفارد نفسها جاءت إلينا، ولا نتحدث عن فرع لها أُنشئ هنا، كما نرى الآن من أفرع لجامعات عالمية تفتح فى منطقتنا العربية.
• مصروفات تلك الجامعة ستكون باهظة، والقبول بها صعب، أى إن الطالب المقبول يجب أن يمتلك المال والمستوى العلمى المتفوق، وعددهم قد لا يكون كبيرًا، وبالتالى ستقبل الجامعة عددًا من الطلبة أقل بكثير من المطلوب.
• أساتذة تلك الجامعة يقومون بأبحاث فى مجالات عديدة، لكن أغلبها قد لا يكون مفيدًا لنا، لأن لكل دولة مشكلاتها التى تحتاج إلى حل علمى.
• عطفًا على النقطة السابقة، خريجو تلك الجامعة إما سيكونون متخصصين فى مجالات لا نحتاجها (ما زلنا نتحدث عن سيناريو هارفارد فى مصر)، أو فى مجالات نحتاجها لكن قد يفضّلون السفر والعمل فى الخارج، لأن البيروقراطية عندنا والمرتبات لا تناسبهم.
ما نستنتجه من هذا السيناريو المتخيَّل هو أن مجرد نقل التجربة كما هى من بلد لآخر لا ينجح فى أغلب الأحيان.
فماذا يجب علينا أن نفعل؟
• • •
ما الذى نحتاجه كى تكون لدينا جامعة ناجحة ونحن دولة نامية؟
• الهدف الأول هو التعليم، ويجب أن نضع ذلك نصب أعيننا، قبل أن نفكر فى ريادة الأعمال أو البحث العلمى، يجب أن يكون الهدف هو تخريج طلاب بمستوى مرتفع، لأنهم من سيقودون قطار الصناعة والبحث العلمى فى البلاد. لذلك يجب أن يخضع جزء مهم من تقييم الأساتذة إلى مستوى التدريس.
• النقطة الثانية بعد التعليم هى تحديد عدد قليل من التخصصات تضع فيه الجامعة كل إمكاناتها حتى تتفوّق فيه. فى الدول النامية من الصعب تحقيق نجاحات فى جميع المجالات، لذا يجب ربط إنشاء التخصصات والأقسام الجامعية بالرؤية الاستراتيجية للدولة.
• الاهتمام بأعضاء هيئة التدريس مهم جدًا، من خلال ورش العمل والتعاون مع الشركات العالمية والجامعات الدولية المعتبرة. الاهتمام بالأساتذة لا يعنى فقط زيادة المرتبات.
• عند تقييم البحث العلمى، فالكيف أهم من الكم. الأستاذ الذى ينشر خمسة أبحاث فى السنة ليس بالضرورة أفضل ممن نشر بحثين؛ العدد ليس هو المهم، بل مكان نشر الأبحاث وتطبيقها على هيئة اختراعات أو تطبيقات هو الأهم.
• تمويل الأبحاث يجب أن يتم من خلال الدولة والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية، مع إزالة جميع العوائق البيروقراطية.
حل المشكلات المحلية وتخريج طلاب نابهين أهم، فى المرحلة الأولى، من الحصول على مركز متقدّم فى تصنيف الجامعات.
• • •
إذا أردنا جامعات ناجحة، سواء من ناحية مستوى خريجيها أو ربحها المادى أو مساهمتها فى تقدّم البلاد، يجب أن نضع عدة أشياء فى الاعتبار:
• يجب أن نتحرر من «عقدة الخواجة»، فليست كل جامعة أجنبية جيدة لمجرد أنها أجنبية. هناك الكثير من الجامعات الأجنبية الضعيفة، لذا يجب أن نختار بعناية الجامعات التى نتعاون معها أو نستلهم تجربتها. ليس بالضرورة أن نستنسخ تجربة جامعة واحدة، بل قد نتعلّم من تجارب عدة جامعات.
• الدرجة الأكاديمية للأساتذة (من أستاذ مساعد إلى أستاذ)، والتى يمنحها المجلس الأعلى للجامعات، يجب أن تعتمد على الإنتاج العلمى للشخص ولا شىء غير ذلك. هذا يعنى أن شخصًا جاء من الصناعة لكنه نشر أبحاثًا قوية يمكن أن يُمنح درجة الأستاذ مباشرة دون المرور بدرجة أستاذ مساعد. المدة الزمنية بين الدرجات الأكاديمية يجب ألا تكون ذات قيمة فى عصرنا هذا. طبعًا، هذا رأى شخصى يخضع للنقاش.
• يجب أن يكون لدينا آلية لاكتشاف المواهب؛ فمن كانت موهبته فى الابتكار وريادة الأعمال، علينا توجيهه إلى هذا المضمار من المرحلة الجامعية. ومن كانت موهبته فى التدريس والبحث العلمى، علينا تشجيعه على الاستمرار فى هذا الطريق، ولا نجبره على أن يكون رائد أعمال.
الجامعات من أقوى مقومات الدول المتقدمة، فالدول القوية تقوم على العلم والتكنولوجيا، وهذا ما تقدّمه الجامعات فى صورة أبحاث وشباب نابه.