فى التجربة التونسية للانتقال الديمقراطى هناك الكثير من الدروس التى يمكن الخروج بها للمنطقة العربية، فهذه التجربة تتراجع وتتأزم رغم محاولات إنقاذها المتعددة لتتحوّل إلى تجربة يتفاقم صلبها الفساد وتضعف فيها غالبا مؤشرات الشفافية والمحاسبة. ومنذ بدايات الثورة التونسية فى 2011، بقيت معالجة إرث الفساد - من إهدار الأموال العامة، الكسب غير المشروع، الاختلاس والرشوة، المحسوبية، استغلال النفوذ... إلخ، العقبة الحقيقية أمام تدعيم الديمقراطية فى تونس. والأهم أو الأخطر من ذلك أن استراتيجيات الإصلاح القانونى لمكافحة الفساد ما بعد 2011 تمّ تطويعها وتوظيفها سياسيا نتيجة تضخم شبكات الزبائنية والابتزاز والاحتيال وغيرها من أشكال الفساد رغم ترسانة القوانين الزجرية والعقابية.
تكالبت على البلاد التونسية، فى سياقات انتقالها الديمقراطى، أكثر أشكال الفساد فتكا بكينونة الدولة وتعدّدت أنواعها لتشمل الفساد الإداري-البيروقراطى والفساد السياسى على وجه الخصوص. على مدار أكثر من عقد على الثورة التونسية، ثمّ التغيّرات السياسية ليوليو 2021 وما تبعها من تدابير استثنائية لتظهر أن مكافحة الفساد ما زالت تعايش انتكاساتها بالرغم أنّها ضرورة لإنجاح المسار الديمقراطى «المنشود». بيد أن السردية الرئاسية الحالية - التى عزّزت شرعية إعادة بناء الدولة وإنقاذها من الفساد فى 2021 - لخصت وقيمت استمرارية الفساد وازدياد مستوياته بتوّرط وانخراط نشط للطبقة السياسية والاقتصادية النافذة بجانب الإدارة التونسية فى استغلال النفوذ والأموال العامة تحقيقا لمنافعهم الشخصية. لذا، فخسارة تونس لحربها ضد الفساد التى تكشفت بوضوح خلال مواجهة الجائحة الوبائية الكوفيد-19 أدّت فعليا لاستعادة رئاسة الجمهورية نفوذها وتوسيع صلاحياتها إلى حدّ احتكار أغلب الخيارات السياسية والمؤسساتية لتطهير الدولة من الفساد..
فى دراسة أعدتها الكاتبة عن الممارسات الديمقراطية وأزماتها فى تونس فى إطار مشروع يقوم به منتدى البدائل العربى للدراسات فى بيروت حول الممارسات الديمقراطية والأزمات فى المنطقة العربية نجد أن ظاهرة الفساد وتجذّرها فى تونس، مثلت «عقبة كبيرة» أمام إنجاح تجربتها الديمقراطية الناشئة. وهذا ما يدفعنا إلى إعادة استقراء مسارات مكافحته ما بعد 2011. ومن المهم التنويه أنّ عملية تحديد وحصر مفهوم الفساد وأشكاله مثّلت تحديّا حقيقيا للمشرع أو باقى الجهات الفاعلة؛ الذى يشكل احتكار موارد الدولة واستغلال الامتيازات من قبل السلطة السياسية وحواشيها من خلال خلق علاقات توافق تؤدى إلى تعميم ظاهرة الفساد.
وقع تعريف الفساد فى القانون الأساسى عدد 10 لسنة 2017؛ باعتباره «كل تصرف مخالف للقانون والتراتيب الجارى بها العمل يضر أو من شأنه الإضرار بالمصلحة العامة، وسوء استخدام السلطة أو النفوذ».
منذ بدايات المرحلة الانتقالية، أصبح فهم ديناميات استفحال الفساد وتحديد المتوّرطين ومحاسبتهم أمرا ضروريا فى ترسيخ مرتكزات الديمقراطية الناشئة. علاوة على ذلك، مثلت عملية تقييم إرث الفساد المستشرى فى عهد الرئيس السابق «زين العابدين بن على» البداية الفعلية للحرب على الفساد من خلال تعبئة الحكومة وتدعيم مشاركة مختلف الجهات الفاعلة. لذا، فقد مكّن المشرع التونسى، على مدار عقود وبالأخص ما بعد 2011 حتى الآن، المؤسسات الرسمية المتنوّعة والمتعددة على غرار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والقطب القضائى المالى وهيئة الحقيقة والكرامة جملة من القوانين والاستراتيجيات المتنافرة والمتوافقة لمحاربة الفساد.
ومن الجدير بالذكر، أن ضعف الميزانيات المرصودة للاستراتيجية الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد عرقلت تحقق التحوّل الفعلى وزادت من مواطن ضعف «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» على سبيل المثال. وقد أعاق ضعف التنسيق المؤسسى وسوء توزيع الأدوار- ظهور حالة من التنافسية إلى جانب الاستقطاب والتوظيف السياسى لملفات الفساد - من مجهودات الهيئة الوطنية. ويتبين من التجربة التونسية أن مجهودات الهيئات العمومية فى مكافحة الفساد يتمّ إفشالها أو تقليص نجاعتها من داخل الدولة ذاتها نتيجة لقدرة البيروقراطية التقليدية على استغلال الثغرات وإعادة إرساء أسس الفساد.
بالتوازى مع القصور المؤسساتى، تكرست تدريجيا، لكن بسرعة، مستويات عالية من تسييس واستغلال النفوذ وتشويه الخصوم على غرار «الحرب على الفساد» التى قادها رئيس الوزراء «يوسف الشاهد» -أغسطس 2016 - لتفكيك حالة التشابك بين الفساد، والإرهاب، والتهرب الضريبى، والتهريب. لم تكرس هذه المجهودات تكريسا لسيادة القانون، بل ارتكزت على «مسرحة» مكافحة الفساد ذاتها وإعطائها بعدا أمنيا تعسفيا. فقد بدا واضحا أن الحكومات الانتقالية الممسكة بزمام السلطة ما بعد 2011 تحلّت بالإرادة الكافية لاتخاذ التدابير «الشكلية» أو «المسيّسة» لمكافحة الفساد فقط.
لذا، وبمقتضى التدابير الاستثنائية والانقلاب على منظومة الحكم، تمّ تفويض مهمة مكافحة الفساد للرئيس التونسى «قيس سعيد» واختزالها فى شخصه مما شكل عبئا متزايدا عليه. وأدّى السخط الاجتماعى من تفاقم ظاهرة الفساد وتداعياتها، والاطمئنان الشعبى فقط لتدخل الرئيس مما ضخم من عملية الانحراف نحو «أخلقة الحرب على الفساد». وقد أدى مجددا هذا التوّجه إلى إفراغ مكافحة الفساد من فحواه مجددا؛ أصدر رئيس الجمهورية مرسوم «الصلح الجزائى» فى عام 2022 بالتزامن مع حلّ المجلس الأعلى للقضاء ممّا أضعف مسارات القضاء على الفساد من جهة أولى، واختزال مهام مختلف الأطراف والمؤسسات المعنية فى تطبيق «التعليمات من فوق» دون الأخذ بزمام المبادرة من جهة أخرى. ما بعد 2021، وفى ظل «الحرب التحررية للدولة»، تم اختزال وتعزيز الأيديولوجيا الوطنية لمقاومة الفساد فى تجميد أعمال الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتعليق مسارات المساءلة وإيقاف حماية المبلغين عن الفساد. إلاّ أن محاولات إعادة تدوير خطاب الفاسد والمفسدين، لم يسهم فى مكافحة الفساد أو ضمان العدالة الاجتماعية والشفافية والحدّ من تبعات النيوليبرالية على الاقتصاد التونسى رغم سجن ومقاضاة لعدد من المتورطين فعليا فى الفساد وإضعاف الدولة.
فمن حيث المبدأ، يبنى مسار مكافحة الفساد حاليا فى تونس على خيار رئيس الجمهوريّة وقناعة مفادها ضرورة اعتماد الشعب التونسى على نفسه لتجاوز حالة التأزم الناجم أساسا عن «ممارسات النخب الفاسدة بمعزل عن الاستراتيجيات أو الإصلاحات أو التوصيّات النابعة من إرادة المؤسسات الدولية». فى هذا الصدد، أصبحت «تونسة» مكافحة الفساد من طرف القيادة السياسية فى تونس أحد تمظهرات ومرتكزات السيادة الوطنية.