المسكوت عنه والأسئلة البديلة - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 3:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المسكوت عنه والأسئلة البديلة

نشر فى : الجمعة 8 أكتوبر 2010 - 10:08 ص | آخر تحديث : الجمعة 8 أكتوبر 2010 - 10:08 ص

 انتهيت فى الأسبوع الماضى إلى أن المضمر فى صيغة سؤال «لماذا يكرهوننا؟» الذى نتناول فيه العلاقة الشائكة والمعقدة مع الغرب، هو التباكى والشكوى، والاستنامة لدعم موقف الضحية التى لا حيلة لها إزاء وضع جائر إلا البكاء. ودعوت إلى تغيير صيغة السؤال التى نبدو فيها فى موقف المفعول به، إزاء غرب فاعل وقوى ومؤثر. سبق له ان استخدم نفس الصيغة عقب أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، ليس من أجل البكاء والشكوى، وإنما كى يبرر ما ينطوى عليه رده المزمع علينا من شر وعدوان، وقد تحولنا فى صيغة سؤاله إلى معتدين أغبياء عليه؛ رأينا الكثير من تجلياته خلال السنوات التسع الماضية. فالصيغة المطلوبة لأى سؤال يتناول علاقتنا الإشكالية مع الغرب لا يجب أن تكون «لماذا يكرهوننا؟» بطبيعتها الاستنكارية التى تتنصل ضمنا من أى مسئولية عن تلك الكراهية، كما تنصل الغرب من أى مسئولية له عما يجرى فى عالمنا العربى عامة وفى فلسطين المحتلة خاصة. كما أنها صيغة تحصر القضية فى فعل الكراهية غير العقلانى، بصورة يتحول معها صراع الإرادات والمصالح والرؤى المستقبلية إلى عمل لا يمكن فهمه، وبالتالى ليست لدينا أى مسئولية عنه. صحيح أن الغرب، الأمريكى خاصة، استخدم نفس الصيغة عقب أحداث سبتمبر الشهيرة، ولكنه تغيّا من استخدامه لها، تجييش العواطف بين مواطنيه ضدنا، وإنعاش ذاكرة تاريخية تتغذى على متخيل سلبى عن الإسلام، وتصويرنا على أننا أغبياء متخلفون نكره الحضارة والديمقراطية، وبالتالى لا يجب التعاطف معنا إذا ما عصف هذا الغرب نفسه بنا، أو إذا ما افتقر للذرائع فى ضربنا. بل يجب التعاطف معه هو باعتباره الضحية لفعل غريب ومقيت: هو فعل الكراهية.

لكننا لا نستخدم نفس الصيغة من أجل تجييش العواطف ضد الغرب عامة، والأمريكى منه خاصة، فليس هذا الأمر ضمن غايات طرح من يطروحون ذلك السؤال فى جل ما قرأت، لأن من يطرحونه يتوسلون به إدارة حوار مع الغرب، هو فى حقيقة الأمر أقرب ما يكون إلى حوار الطرشان، وإلى التوسل إليه كى يعرف الإسلام على حقيقته، ويعرفنا معرفة «حقيقية» كما يقولون. وفى هذا المضمار أسوق لهم تساؤل المفكر الجزائرى الراحل محمد أركون: هل يمكن التحدث عن وجود معرفة علمية حقيقية عن الإسلام فى الغرب؟ وهو تساؤل استنكارى ينطلق من الوعى باستحالة هذه المعرفة العلمية الموضوعية المنهجية، لأن الذات ورغباتها وتواريخها لا تنفصل عن موضوع المعرفة. وهو تساؤل ينطوى على التشكيك فى صلاحية النظرة المتوافرة لدى الغرب عن الإسلام، بل على استحالة معرفته حقيقة به. لأن المتخيل الغربى عن الإسلام يحول دون هذه المعرفة، ويحول دونها أيضا وعى الغرب بأن مصالحه فى المنطقة قد تأثرت منذ بداية حركات التحرر الوطنى فيها، بطريقة لا يريد لها أن تتكرر من جديد فى دورته الاستعمارية الثانية. كما يدعو محمد أركون إزاء استحالة هذه المعرفة إلى ضرورة فهم المأساة التاريخية التى تتخبط فيها الشعوب الإسلامية منذ أن اصطدمت بشكل مفاجئ وعنيف بالحضارة المادية والحداثة العقلية. فلا الثورة الاشتراكية ولا الثورة الإسلامية أتيح لهما أن تحظيا بمرحلة تحضير واستعداد كافية كما حصل للثورة الفرنسية فى القرن الثامن عشر. إذ لم يمهد لهما عن طريق حركة ضخمة من النقد الفلسفى والعلمى للتراث الدينى، ثم لنقد الممارسة السياسية لأنظمة الثقافة الموروثة ولمشكلة المعرفة بشكل عام. وبذلك تراكم اللامفكر فيه فى الفكر الإسلامى والعربى بصورة رهيبة.

لذلك كله ليس علينا التذرع بأى أمل فى أى يعرف الغرب الإسلام معرفة حقيقية، ناهيك عن السؤال الأكثر إشكالية وهو ما هى تلك المعرفة «الحقيقية»؟ بل من الضرورى أن تتغير صيغة السؤال، وأن يتم تخليصه من مضمره اللاعقلانى، لأن الغرب مفرط فى العقلانية إلى حد الوضعية المنطقية. وأن تكون الصيغة البديلة أو بالأحرى الأسئلة البديلة هى أسئلة الذات العربية لنفسها أولا، ثم للعالم ثانيا. وأن نبدأ بالسؤال البديهى: لماذا أصبحنا «نحن» العرب، ثم بعد ذلك فلنتحدث عمن وراءهم من المسلمين، موضع كراهية الغرب، ومحل عصفه بمصالحنا وقضايانا العادلة؟ لماذا أصبحنا لا نستحق من الآخر، الغربى وغير الغربى على السواء، الاحترام الذى يجب أن نكون جديرين به؟ وقد مكنتنى الحياة فى الغرب لأكثر من ثلاثين عاما أن أعيش بشكل ملموس هذا المنحنى النازل الذى فقدنا فيه كل احترام. فبعد الاحترام المشوب بالترقب مع مطالع السبعينيات وعقب استخدام سلاح النفط، إلى الريبة والحذر اللذين تبددا مع الثمانينيات وعقب احتلال جيش الصهاينة لعاصمة عربية على مسمع من عالم عربى عاجز لا يستحق أى احترام، إلى الاستخفاف والاستهانة فى التسعينيات بكل ما جرى فيها من بلقنة العالم العربى وحروب عربية عربية، وحتى الاستهزاء والزراية والاحتقار مع القرن الجديد الذى أصبح فيه ممكنا احتلال بلد عربى كبير مثل العراق دون أى سند قانونى، ودون حتى أى احتجاج شعبى أو رسمى يذكر، بينما ملأت مظاهرات الاحتجاج من أجلنا عواصم العالم، بما فيها لندن التى خرجت بها أكبر مظاهرة فى تاريخها، غداة حرب احتلال العراق.

وليس فقداننا للاحترام مقتصراً على الغرب وحده، لأن الذى يعيش فى الغرب يعيش فى وسط العالم، ويحتك بكل ثقافاته وشعوبه. وقد لمست طوال سنوات حياتى فى الغرب هذا التآكل المتواصل والمتسارع فى قيمة عالمنا العربى، وفى مكانته حتى بين الشعوب التى كانت تحترمنا لأسباب تاريخية أو موضوعية. لقد بدأت هى الأخرى، وهى تشهد فصول تردينا وتبعيتنا وهواننا تشيح بوجهها عنا، إن لم أقل تستخف بنا شفقة أو ازدراء. فإذا كان لدى الغرب أسبابه للعصف بنا ولمطامعه فينا، فليس باستطاعة الشعوب والثقافات الأخرى أن تفهم أسباب استخذائنا وتفريطنا المهين فى كل حقوقنا أمامه. ليس باستطاعتها أن تفهم لماذا لا نقاوم هذا الغرب؟ ولماذا أضحينا ألعوبة سهلة فى أحابيل سياساته؟ ولماذا لا نتوحد على الحد الأدنى من الغايات والمطالب فى عالم لا يقيم وزنا إلا للكيانات الكبيرة والقوية؟ والواقع أننى كثيرا ما سئلت هذه الأسئلة، وطرحها علىّ أفارقة وآسيويون وأمريكيون لاتينيون من الذين لا يمكن الحديث عن أن سموم العداء التاريخى للإسلام منذ الحروب الصليبية قد شوهت رؤاهم وتفكيرهم. بل يمكن القول إنهم جميعا حلفاء طبيعيون أو محتملون لنا فى معركة الصراع مع الغرب.

ليس من الطبيعى إذن أن نسأل، خاصة أمام هذه الشعوب والثقافات التى أصبحت هى الأخرى تزدرينا، لماذا يكرهوننا؟ وإنما يجب أن نطرح الأسئلة البديلة والمدببة على أنفسنا: لماذا هان وضعنا فى العالم حتى أصبحنا فى وضع التابع الذليل، الذى لا يملك غير الاستجداء والتباكى على ما يلحق به من ضرر، دون أن يملك القدرة على دفع الضرر عن نفسه، أو الدفاع عن مصالحه؟ لماذا نبدو الآن ــ على خريطة العالم الواسعة ــ وكأننا رجل العالم المريض فى مطلع القرن الحادى والعشرين، كما كانت الدولة العثمانية، وهى كيان إسلامى آخر، رجل العالم المريض فى مطلع القرن العشرين؟ لماذا تحترم مصالح كيان غض مغتصب حديث الولادة، مثل دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين ورؤاها، بينما لا يعير احد مصالحنا وقضايانا العادلة أى اهتمام؟ لماذا هانت قضايانا ومصالحنا علينا قبل أن تهون على الآخرين؟ أين تنتهى حدود مسئوليتنا عن هذا الوضع؟ وأين تبدأ مسئولية الآخرين؟ لماذا سمحنا بتردى كل مؤسساتنا فى التعليم والصحة والانتاج الاقتصادى والزراعى، بينما يقفز العالم بخطوات فساح فى كل هذه المجالات؟ لماذا يستشرى الفساد فى مجتمعاتنا حتى أصبح هو القاعدة لا الاستثناء؟ لماذا لا نعرف حقيقة من هو عدونا؟ ومن هم الأصدقاء؟ ولماذا لا يتمتع مواطنونا بأبسط حقوقهم السياسية، وأولها الحرية بمعناها الاجتماعى والسياسى الشامل؟

هذه هى الأسئلة المسكوت عنها، والتى ينبغى أن ينشغل بها مثقفونا ومفكرونا فى تناولهم لتلك العلاقة المعقدة بالغرب. لأن علاقتنا بالغرب ليست علاقة حب وكراهية، بقدر ما هى علاقة مصالح وإرادات. وكلما استكنا وفرطنا واستخذينا ولم نبلور أولوياتنا وإرادتنا لأنفسنا ونتفق عليها، فلن نستطيع أن نتعامل مع من يعرفون أولوياتهم بدقة متناهية، ولن نحظى باحترام أحد، ولا حتى بكراهية أحد. فموقف الغرب منا ليس كراهية بقدر ما هى استخفاف واستهزاء ولامبالاة يستحقها دائما، وعن جدارة، التابع المهان، والذى لا يعى فى كثير من الأحيان تبعيته ولا هوانه. إذا لم نفعل ذلك سنظل أسرى لثقافة الملامة تلك، نبحث عن مشاجب نعلق عليها اخطاءنا، ونتباكى بين انفسنا لأننا ضحايا لكراهية الآخرين.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات