تأملات اقتصادية - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تأملات اقتصادية

نشر فى : الخميس 9 يونيو 2022 - 7:35 م | آخر تحديث : الخميس 9 يونيو 2022 - 9:21 م
أثناء دراستى فى كلية التجارة وفى مقرر اقتصاد السنة الأولى، قرأت فى كتاب العالم الجليل الأستاذ الدكتور أحمد أبو إسماعيل الذى درست على يديه تعريف الاقتصاد بأنه «العلم الذى يبحث مقرره فى توزيع الموارد المحدودة على الرغبات غير المحدودة بحيث نحصل على أفضل إشباع». ظللت على مدى سنين طويلة أبحث عن تعريف للإشباع الأفضل. زادت تساؤلاتى عندما بدأ التركيز على النمو كهدف أسمى للاقتصاد وتبارى الحكومات بنسبة النمو التى حققتها وبأنها حققت نسبة نمو قدره ٩٪ بينما لم تحقق حكومة سابقة سوى ٧٪، وذلك دون سؤال عن من استفاد بالنمو وهل تم توزيعه توزيعا فيه شىء من العدالة على المجتمع أم استأثر به ١٪ من الأثرياء الذين ازدادوا ثراء على حساب باقى المجتمع الذى ازداد فقره ومعاناته. وأثر ذلك على تقطب المجتمع بين المتهمين والمحرومين ومن ثم على السلام الاجتماعى.
أدت تساؤلاتى عن الإشباع والتوزيع والعدالة الاجتماعية إلى تعكير العلاقة الودية بينى وبين دراسة الاقتصاد، صاحبتنى لفترة طويلة حتى التحقت ببرنامج دراسات عليا على يد الرجل العظيم الدكتور جلال أمين الذى ربط ربطا وثيقا بين الاقتصاد وسائر العلوم الاجتماعية.
ولعلى لم أكن وحدى المشغول بقضية التوزيع وتحقيق الإشباع الأفضل بل إنها، كما وعيت لاحقا، صارت قضية شغلت المفكرين والفلاسفة منذ أن كتب أفلاطون كتابه الجمهورية سنة ٣٨٠ ق.م وكتب توماس مور كتابه المدينة الفاضلة utopia سنة 1516. وأصبحت قضية سياسية نشأ معها علم الاقتصاد السياسى ومن المفارقات أنه لا يوجد علم للاقتصاد الاجتماعى!
• • •
ظل مطلب عدالة التوزيع والإشباع الأفضل أمورا طوباوية فلسفية بعيدة عن الواقع القاسى للحياة حتى عام 1867 عندما ظهر كتاب رأس المال لكارل ماركس الذى وضع نموذجا لعدالة التوزيع. وأصاب الكتاب وما طرحه من أفكار الحكومات والمؤسسات الاقتصادية بقلق شديد. وانقلب القلق إلى هلع بعد قيام الثورة البلشفية فى روسيا وما صاحبها من عنف بشكل لم يحدث داخل دولة منذ الثورة الفرنسية منذ قرابة 120 عاما.
أدى هذا القلق إلى متابعة بوليسية عنيفة فى كثير من الدول للكتابات المتأثرة بأفكار كارل ماركس وأصبح مجرد وجودها فى مكتبة مثقف مبررا للقبض عليه وإلقائه فى غياهب السجن. ومن المفارقات أن من دخلوا السجون وتعرضوا للاضطهاد بسبب دعوتهم لوضع ضوابط لتوزيع المال لضمان شىء من العدالة يفوق كثيرا من غضوا البصر عن تراكم الثروات بغير حساب دون اعتبار للعدالة. ويستمطر أعداء الاشتراكية لعنات السماء على كارل ماركس وثورة أكتوبر الروسية، وفى مصر على عبدالناصر وثورة يوليو لأنهم أصحاب هذا الفكر الخبيث الذى يتناقض مع التاريخ الذى طالما أتاح للإنسان السعى وراء الرزق وتكوين الثروات دون تدخل من سلطة خارجية.
إلا أن هذا الطرح مخالف للحقيقة فتاريخيا كانت الأرض خاضعة للسلطة أو الملك فى الصين والهند وبابل ومصر القديمة حيث كان الفرعون يملك الأرض ويمنح الحياة للشعب فى الدنيا وحتى فى الآخرة فيمد من يرضى عنه بالحجر من المحاجر التى يملكها ليبنى مقبرة حجرية تكفل له الخلود! وحتى فى أوروبا فى العصور الوسطى كانت الأرض ملك الملك يوزعها على البارونات والنبلاء مقابل الخدمة فى جيشه.
• • •
أما فكرة الملكية الخاصة فقد بدأت فى القرن 17 عندما تأزمت مالية فرنسا بسبب الإسراف الشديد فى عهد لويس الرابع عشر، فكلف وزيره الأول كولبير فى عام 1681 أن يجمع التجار ويسألهم كيف يمكن للحكومة أن تساعدهم للخروج من حالة الكساد فكان ردهم Laissez faire أى دعونا وحدنا وعدم تدخل الدولة فى عالم المال وصار هذا تعبيرا عن رفع يد الحكومات عن النشاط التجارى والاقتصادى. بعد أقل من 100 سنة وفى عالم 1776، صدر كتاب الاقتصادى البريطانى آدم سميث ثروة الأمم the wealth of nations الذى يوضح أن ثروة الأمة هى تراكم ثروات الأشخاص والأعمال الصغيرة والمتاجر، وهو الكتاب الذى جعل نابليون يصف الإنجليز بأنهم أمة من أصحاب المتاجرa nation of shop keepers. وانقسم العالم بين أتباع آدم سميث الذين كونوا المعسكر الرأسمالى وأتباع كارل ماركس الذين كونوا المعسكر الاشتراكى، ولم يقتصر التنافس بين المعسكرين على الجانب الاقتصادى والعقائدى لكنه امتد إلى المجال العسكرى؛ ترجم إلى حلفين عسكريين ــ حلف الناتو فى الغرب وحلف وارسو فى الشرق يوجه كل منهما ترسانة هائلة من مئات الرئوس النووية لتدمير الآخر.
ولكن هل يعنى هذا العداء بين الفكر الاشتراكى والفكر الرأسمالى، استحالة اللقاء بينهما؟. حقيقة الأمر أن معظم الدول الأوروبية ــ أعضاء حلف الناتو والاتحاد الأوروبى ــ بها أحزاب اشتراكية قوية بل وأحزاب شيوعية كما أن بريطانيا عراب الـ laissez fair وعدم تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى أممت بنك إنجلترا bank of England فى عام 1946 وأممت مناجم الفحم فى نفس العام، فى عام 1948 أممت السكك الحديدية، أما الولايات المتحدة العراب الأكبر للرأسمالية التى جيشت الجيوش والرءوس النووية القادرة على تدمير العالم عدة مرات دفاعا عن النظام الرأسمالى وإبعاد الدولة عن النشاط الاقتصادى فقد أصدر الرئيس فرانكلين روزفلت الأمر الرئاسى رقم 6102 لعام 1933 الذى يحرم على المواطنين الاحتفاظ بعملات أو سبائك ذهبية يتجاوز قيمتها 100 دولار، وأن يسلم من بحوزته الذهب إلى الحكومة فى موعد غايته 1 مايو رغم أن الأمر صدر يوم 5 إبريل أى أن المهلة الممنوحة كانت أقل من شهر، وأن تدفع الحكومة 20 دولارا و67 سنتا للأونصة رغم أن سعر أونصة الذهب كانت أكثر من 32 دولارا. وتم تجميع الذهب وإيداعه فى حصن Fort Knoxالمنيع ليكون الاحتياطى الاستراتيجى للدولار الأمريكى. هذا رغم أن الآباء المؤسسين والموقعين على إعلان الاستقلال declaration of independence والدستور الأمريكى عارضوا بشدة فكرة إنشاء بنك مركزى حتى إن توماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين والرئيس الثالث للولايات المتحدة قال إن النقيصة الكبرى فى الدستور الأمريكى هى عدم وجود نص صريح يحرم إنشاء بنك مركزى؛ ولذلك تأخر إنشاء بنك الاحتياطى الفيدرالى Federal Reserve Bank حتى عام ١٩١٣.
• • •
لكن ماذا كانت نتيجة المواجهة الطويلة بين الفكر الاشتراكى والفكر الرأسمالى؟ يروج البعض بأن الاشتراكية فشلت بسقوط الاتحاد السوفيتى، فضلا عن إلقاء الغرب الأنوار على التجاوزات الكثيرة لحقوق الإنسان التى وقعت فى الدول الاشتراكية خاصة أحداث الثورة الروسية والثورة الثقافية فى الصين وحائط برلين ونظام شاوشيسكو إلا أنه يجب النظر فى هذه التجاوزات فى إطار رد الفعل لقرون من الظلم والقهر والبؤس الذى عاشته الشعوب، وفى هذا الصدد قال أحد المفكرين الاشتراكيين أن التجاوزات التى وقعت فى الدول الاشتراكية لم تنل من رونق الفكر الاشتراكى كما لم تنل تجاوزات محاكم التفتيش من رونق المسيحية. ومن ناحيتها لم تسلم الرأسمالية من التشويه على مدى التاريخ مثل، إهمال بريطانيا إغاثة ضحايا القحط الأيرلندى Irish Famine من عام ١٨٤٥ إلى ١٨٤٩ الذى أدى إلى وفاة أكثر من مليون شخص وهجرة أكثر من مليون، وحالة البؤس التى سادت ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى والمآسى التى سادت الولايات المتحدة سنوات الكساد الكبير بعد انهيار البورصة فى عام ١٩٢٩. واليوم نجد الرأسمالية قد حادت عن أهدافها الأصلية التى تشجع المبادرة الفردية فى وسط تنافس عادل بعيد عن الاحتكار وتحولت إلى نظام استهلاكى يشجع الإنفاق السفيه والنمو غير المحدد بشكل بات يهدد الموارد الطبيعية والتوازن البيئى.
لعلى بعد هذا الاستعراض للفكر الاقتصادى أترحم على الأستاذ القدير جلال أمين الذى اجتذبنى بعد شرودى إلى حظيرة علم الاقتصاد وتعلمت منه أنى سأجد فى رحابه كل العلوم وأراقب من خلاله مركز التاريخ وأجدها مناسبة أيضا للترحم على شقيقه السفير القدير حسين أمين صاحب الكتاب القيم «دليل المسلم الحزين فى القرن العشرين» نعم، الأخوان أحسن خلف لأحسن سلف أبناء الأستاذ أحمد أمين.
محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات