ذاكرة المهن الغاربة (1) - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذاكرة المهن الغاربة (1)

نشر فى : السبت 9 يوليه 2022 - 7:20 م | آخر تحديث : السبت 9 يوليه 2022 - 7:20 م
تذكرتُ بالأمس، مجموعة من الحرف النادرة، بعضها الآن شبه منقرض، كان لى حظ مشاهدتها، ومعاينة أصحابها، سواء أثناء طفولتى فى شبرا بالقاهرة، أو عندما رجعت إلى الصعيد، مسقط رأس أبى، فى أوائل السبعينيات، حيث أقمت لسنوات فى مدينتى نجع حمادى وفرشوط. ماذا يتبقى لنا بدون الذاكرة؟ وهل هذه الحرف مجرد حكايات قديمة أم أنها الحياة التى كانت؟
لعلها فعلًا بصمة الناس والأماكن على الأزمنة، وخطوة فى صعود سلم ترويض الحياة، ومحاولة لإثبات المحاولة والجدارة والاكتشاف، هكذا أراها عمومًا، كجزء من نقوش البشر فوق الزمن.
هذه مجرد مجموعة من تلك الحرف سجلتها عفو الخاطر:
(1) السقا: لحقت أيامه الأخيرة فى مدينة نجع حمادى، وذلك فى النصف الأول فى السبعينيات، كانت مدينة عصرية جدا، وفيها محطة مياه معتبرة، ومع ذلك كان هناك حفنة من السقايين ما زالوا يعملون، ربما ستة مثلا أو أقل، كنت أراهم على حافة النيل بقربهم الجلدية، يرتزقون إما من توزيع المياه فى سطل (وعاء صغير) بعد صلاة الجمعة، أو من ملء الأزيار فى البيوت الكبيرة، ومنها بيت جدتى لأمى، فقد كانت تصر على ملء الزير الكبير فى مدخل البيت من ماء السقا، رغم وجود المياه الجارية من شبكة المياه، وكم شاهدته مرات وهو يقوم بذلك، ولا أنسى طعم مياهه العذبة، هل كان النيل رائقا إلى حد أن نشرب منه بدون فلترة؟ ربما كان البشر أنفسهم رائقين بدرجة تجعلهم يتقبلون مياه السقا.
(2) جامع البيض: مهنة غريبة، شاهدت صاحب هذه المهنة فى العسيرات قرية أبى، وفى مدينة فرشوط فى منتصف السبعينيات تقريبا، وهو رجل يركب دراجة أمامها صندوق خشبى كبير، كان يمر على البيوت، يجمع البيض، وأعتقد أنه كان يقدم مقابله مالًا أو أشياء عينية، مثل الشاى والسكر، بالذات فى القرى الصغيرة، لا أعرف بالضبط إلى أين كان يأخذ البيض، فى الغالب كان يبيعه بدوره لأصحاب مزارع الدواجن مثلًا، لكن أبرز ما أتذكره عنه، هذا المنظار الصغير، الذى كان يفحص به البيض، ليفرّق بين البيض السليم، والبيض «اللايح»، أى الفاسد، كنا نسمى هذا المنظار الصغير العجيب «النادور»، لأنه «يندر» منه، أى ينظر من خلاله. هل يربون الدجاج أصلًا فى القرى الآن حتى يظهر جامع البيض من جديد؟
(3) معمّر البوابير: حتى مع شيوع بوتاجازات المصانع الحربية، وانتشارها فى البيوت، ظلت كل أسرة فى نجع حمادى وفى فرشوط فى السبعينيات، تحتفظ بوابور قديم يعمل بالفونيا والكباّس، ونموّنه بالغاز (الجاز)، الذى نشتريه من عربة جاز تمر فى الشوارع، يجرها حمار، وفيها صهريج أسطوانى عليه عبارة «إسّو» مكتوبة بالخط الثلث، وكان معه دومًا كوز وقمع، لمعايرة الجاز للزبائن، الجاز كان يستخدم أيضًا فى المنازل، لتعمير لمبات نمرة 5 و10، التى كانت مستخدمة أيضا للطوارئ عند انقطاع النور الكهربائى مثلًا.
أمى كان لديها أكثر من وابور عملاق، تستخدمه عند تدميس الفول فى الدماسة (إناء لطهى الفول)، وهى عملية كانت تستغرق عدة ساعات، وبسبب وجود بوابير الجاز فى كل بيت، كانت هناك مهنة معمر البوابير، الذى كان يمر أحيانًا فى الشوارع صائحًا بصوت منغّم أكاد أستدعيه مسموعًا، وأنا أكتب: «بوابير جاز نعمّر»، وكان له فى نجع حمادى دكان صغير جدا، بجوار الجامع العتيق، من أصغر الدكاكين التى رأيتها فى حياتى، وكان وجهه دائما ملطخا بالسواد، كما كان يستخدم بعض مواد وأجهزة اللحام، وهو نفسه الرجل الذى كنا نلجأ إليه لترميم فوانيسنا الصغيرة، بالذات عندما ينكسر بابها الصفيح، وكان يلحم بعض الأجزاء أيضًا، فنفرح بالفانوس المرمم، كانت الفوانيس وقتها مصنوعة من الزجاج السميك الملون، ومن الصفيح الأبيض.
(4) وكالة الحمير: لا أعتقد أنها أصبحت موجودة، ولكنها كانت منتشرة فى البنادر، لإقامة الحمير وعلفها، والاحتفاظ بها لأصحابها القادمين بواسطتها من القرى، لقضاء مصالحهم، فيتركون «الركايب»، كما نسميها فى الصعيد، فى الوكالة، مقابل مبلغ من المال طبعا.
يعنى ببساطة نحن أمام «باركينج» للحمير، يمكن أن تجد فيه مواد العلف، وسبيلا للماء، لكى تشرب الدابة، ولا أتذكر بالضبط كيف كان صاحب الوكالة يحدد الحمار الخاص بكل شخص، ربما من خلال نمر وأرقام مثلا، ولكنى أتذكر جيدا أن أولاد عماتى القادمين من العسيرات لزيارتنا فى فرشوط فوق الحمير، كانوا يتركون الدواب فى الوكالة، وعندما كنا ننزل العسيرات، كنا نسير معهم إلى الركايب، وكان مكانها عادة فى مداخل البنادر، حيث نجد الحمير فى انتظارنا، فنركبها معهم، ألم أقل لكم أن الوكالة بالضبط «باركينج للحمير»؟! لا أعتقد أن هناك من يستخدم الحمير الآن للذهاب إلى البنادر!
(5) سنّان السكاكين: كانت مهنة مهمة جدًّا، لأن كل بيت فيه سكاكين مختلفة الأحجام، لتقطيع الطعام، ولذبح الدواجن والأرانب، وكانت أمى تقوم بهذه المهمة بكل سهولة، فأختفى فى الحجرة الداخلية، حتى لا أرى هذه المذبحة، ربما يكون هذا الطقس الدموى هو سبب كراهيتى لتناول الدواجن والطيور عمومًا حتى اليوم!
كل البيوت كانت لديها هذه السكاكين، وكل الأمهات كن يتمتعن بهذه المهارات، ويفضلن ذبح الطيور والأرانب بأنفسهن، وطبعًا «تَتْلَم» هذه السكاكين بمرور الزمن، وهنا يظهر دور سنّان السكاكين، الذى كان يمر فى الشوارع مناديًا، وحاملًا معه عجلة دوارة كبيرة، يسندها على الأرض، ويقوم بسن السكاكين، لتعود حادة من جديد.
فى الهرم حيث أسكن اليوم، ما زال هناك محل يسنّ السكاكين، وهناك رجل وطفله الصغير يمران على الشوارع، بنفس العجلة الدوارة، بقايا زمن غارب قديم، وبقايا ذكريات لا تُنسى، شاهدت الرجل والطفل مؤخرًا ومعهما عجلة السنّ، كانا يمارسان الشحاذة، والعجلة الهائلة مستسلمة، صامتة، تريد أن تبكى.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات