قبل إطلاق سراحه من سجنه الطويل طلبت مجلة «التايم» الأمريكية من أحد فنانيها أن يرسم صورة تخيلية تتصدر غلافها لرجل اختلفت ملامحه بأثر السنين، عاش فى شبه عزلة لسبعة وعشرين عاما متصلة، لم تنشر له صورة واحدة وكان من الصعب على من لم يره طوال هذه السنوات أن يتوقع الصورة التى بات عليها.
لم يكن الآلاف الذين انتظروه على أبواب سجن «فيكتور فيرستير» بوسعهم أن يتعرفوا عليه بسهولة.. ما إن أطل عليهم وقيل لهم: «إنه نيلسون مانديلا» حتى تدفقت الدموع من مآقيها وتعالت الصرخات بهستيريا: «أحرار.. أحرار».
الحقيقة فارقت الصورة التى تخيلتها المجلة الأمريكية الشهيرة. بدا أكثر نحافة لكنه حافظ على لياقته البدنية التى اكتسبها من مواظبته على ممارسة الرياضة تحت كل الظروف وأضفت عليه السنين وسامة لم تكن له فى شبابه.
فى خطوته الأولى إلى الحرية يوم (١١) فبراير (١٩٩٠) خطت الإنسانية خطوة هائلة لإنهاء نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا أحد أبشع النظم فى التاريخ الإنسانى كله.
لخص قضيته وارتفع إلى مستوى تحدياتها لكنه لم يكن وحده، ولا الخطوة الهائلة إلى المستقبل صنعها وحده. فى لحظات الانفعالات الكبرى وقضية التحرر الإنسانى من ربقة العبودية الجماعية تأخذ مداها ذكر شعبه بـ«أننى لست نبيا ولا مسيحا» وذكر نفسه بالأدوار الكبرى التى لعبها رفاقه فى صناعة رمزيته لقضية عادلة. تراجعوا خطوتين أو ثلاثا إلى الخلف وتركوه يتقدم وحده إلى مقدمة المسرح السياسى تحت الضوء الباهر. إنها اعتبارات قضية منحوها أعمارهم سجنا ونفيا لا تنازع على سلطة حان وقت الصعود إليها. بعض التفاصيل السياسية والإنسانية فى خلفيات الرواية التاريخية تضفى عليها جمالا استثنائيا إضافيا لمعنى أن تكون هناك قضية تلهم وتستحق أية تضحيات من أجلها وأن تكون هناك صداقة استدعت إلهاما متبادلا بين أطرافها. هكذا كانت علاقة «نيلسون مانديلا» بصديقيه الكبيرين: «أوليفر تامبو» و«وولتر سيسولو»، الثلاثة تبنوا الأفكار ذاتها وتباروا فى بذل التضحيات وتبادلوا الأسرار الشخصية ومثلوا معا واحدة من أفضل التجارب الإنسانية والسياسية فى التاريخ الحديث كله.
«تامبو» تولى لفترة طويلة رئاسة حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى.. وعندما عاد إلى بلاده لأول مرة بعد ثلاثين سنة فى المنفى ليحضر أول مؤتمر علنى للحزب فى ديسمبر (١٩٩٠) قال «مانديلا» من على منصة المؤتمر وأمام العالم كله: «ها هو أوليفر يقودنا نحو مستقبل مشرق مفعم بالأمل، إنه الرجل الذى أنقذ الحزب طوال السنوات السبع والعشرين التى قضيتها فى السجن، وهو الذى انتقل به إلى منظمة عالمية لها حضورها ونفوذها».. «إنه بحق الجندى والدبلوماسى ورجل الدولة»، لكنه لم يستسلم لرغبة «نيلسون» فى أن يخلى له ما يستحق من أدوار فى المستقبل معتقدا أن القضية تستحق التضحية بأية إغواءات سلطة، فـ«مانديلا» فى هذه اللحظة هو رمزها الأكبر ومن الأفضل أن تتسق الحقائق وأن تستخدم رمزيته وكفاءته فى قيادة المفاوضات الصعبة لتفكيك النظام العنصرى فى جنوب إفريقيا. تشاركا فى سنوات الشباب الأولى بمكتب محاماة فى جوهانسبرج حمل اسم «تامبو مانديلا»، وكان مكتب القضاء الإفريقى الوحيد فى جنوب إفريقيا فى ذلك الوقت.. ومن موقعه فى رئاسة المؤتمر الوطنى الأفريقى تبنى «أوليفر» حملة دولية لشرح قضية مواطنيه الأفارقة ضد سياسة الفصل العنصرى والتنديد بها والدعوة إلى الانعتاق منها وأن يكون شعارها إطلاق سراح «نيلسون مانديلا». كانت هناك اعتراضات وحساسيات.. لم يكن هو السجين الوحيد الذى تقادمت عليه السنين فى السجن ولا هو وحده الذى صمد فى مواجهة عنت وعسف السلطات البيضاء ضد كل ما هو إفريقى أسود، وامتدت الاعتراضات والحساسيات إلى السجون وتردد على نطاق واسع أن الحملة ومنطقها أقرب إلى «شخصنة القضية» على حساب طبيعتها العامة لشعب يرزح تحت الفصل العنصرى.
«تامبو» دافع باستماتة عن فكرته ونجح فى تذليل الاعتراضات عليها، فالعالم يتفهم القضايا الكبرى عندما تطرح عليه لكنها قد تلهم خياله عندما تجسد أمامه فى طلب الحرية لإنسان يرمز إلى أمة مقهورة، صمد وقاوم عذابات السجون مؤمنا بحق شعبه فى منع التمييز العنصرى ضده.
فى اللحظة التى خطا فيها «مانديلا» خطوته الأولى إلى الحرية فى ظروف دولية جديدة أعقبت سقوط حائط برلين دعت تفاعلاتها لتفكيك نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا لم يتردد «تامبو» فى أن يفسح المجال أمام صديقه القديم لقيادة التحول الكبير فقد أصبح رمزا للقضية وأثبت جدارة فى الحديث باسمها وكفاءة «الحوار مع العدو» معتقدا بعمق أن قضيته فوق شخصه وانتصارها فوق طموحاته وأن لكل مرحلة رجلها، و«مانديلا» هو رجل اللحظة التاريخية.
فى لقاء فريد بتوقيته وأجوائه وتفاصيله جمع الرجلين فى العاصمة السويدية «ستوكهولم» تجلت معادن الرجال الكبار. ذهب «مانديلا» إلى «تامبو» حيث يتلقى العلاج كأنه أراد أن يقول للعالم: «هذا قائدى».
بادره «أوليفر» بعبارة قاطعة: «نيلسون.. عليك الآن أن تتسلم رئاسة الحزب فقد قمت بواجبى فى رعاية المقعد حتى تصل أنت إليه».. فرد عليه: «أنت الذى توليت قيادة الحزب من الخارج بأفضل مما كنت قادرا عليه وانتقال الرئاسة بهذا الأسلوب ليس عادلا ولا ديمقراطيا».. «لقد انتخبك الحزب رئيسا وليس من حقك أن تسند الرئاسة إلى غيرك». لم يتراجع «أوليفر» عن موقفه وكان قراره حاسما ونهائيا.. فهو رجل «ذكاؤه عميق وقدراته استثنائية فى الحوار والنقاش وتفنيد أفكار خصومه بأسلوب منطقى ومقنع» على ما يصفه «مانديلا» فى مذكراته التى يسجل فيها أن أفضل ما تعلمه منه «نظرته الموضوعية التى خففت من اندفاعاتى العاطفية المتسرعة». اتسقت الحقائق الجديدة مع رؤية «أوليفر» وآلت قيادة الحزب والدولة إلى «نيلسون مانديلا». الرؤية ذاتها تبناها رجل قوى آخر هو «وولتر سيسولو»، الذى عانى عذابات السجون الطويلة مع «نيلسون مانديلا» بذات التهم، وكانت شخصيته ملهمة لكثيرين وأولهم «مانديلا» نفسه الذى كتب فى مذكراته: «لقد خضت مع وولتر النضال حلوه ومره.. وهو رجل عنده حكمة وعقله راجح، ولا يوجد فى الدنيا كلها من يعرفنى أكثر منه ولا أطمئن لرأى وأقدره أكثر مما أطمئن لرأى وولتر وأقدره».
بلا ضجيج أو ادعاء تراجع «وولتر» خطوات إلى الخلف، وهو رجل وراءه أسطورة صمود كتلك التى لدى «نيلسون» بالضبط، لم يتململ أو يتضايق من مساحة الضوء الكبيرة التى حازها صديقه الحميم، لم تكن مسألة رفعة إنسانية بل مسألة اعتقاد قبل وبعد كل شىء أن مصلحة قضية جنوب أفريقيا تجب أى شىء آخر. كان «مانديلا» مهيئا أكثر من رفيقيه لقيادة التحول، فهو صاحب فكرة «الحوار مع العدو». لم يبد «وولتر» ارتياحا للفكرة عندما حاوره خلف الأسوار. لم يكن ضد المفاوضات من حيث المبدأ لكنه كان يفضل أن تبادر الحكومة البيضاء بها لا أن تأتى «من صفوفنا».. ولم يبد فى الوقت نفسه «أوليفر» ارتياحا للفكرة نفسها وأرسل إلى «مانديلا» عبر محامين يسأل: «ما موضوع المحادثات السرية بالضبط؟». أقنع «مانديلا» رفيقيه بالمضى فى المحادثات لاكتشاف فرص المستقبل وكسب رهانه على التحول الكبير وكان العالم مهيئا لمثل هذا التحول. فى لحظة خروجه من السجن بدا أنه الوحيد القادر على إدارة التفاوض الصعب من أجل الحرية، وقد أنجز مهمته بدرجة عالية من الكفاءة وحسن تقدير الأمور. اتسقت تجربته مع معتقداته وتسامحت روحه مع عذاباته ودعت إنسانيته سجانيه إلى الافتتان بشخصيته إلى درجة دعت حارسه الأبيض «جيمس جريجورى» الذى توفى عام (٢٠٠٣) إلى وصفه فى مذكرات تحولت إلى فيلم سينمائى بأنه «سجينى وصديقى».
وأنت تقرأ مذكرات «مانديلا» تجد نفسك أمام رجل يكاد يقول إن كل ما فعلت الفضل فيه لآخرين. أسطورته فى نزعته الإنسانية. قاد تجربة فى «العدالة الانتقالية» تعد مصدر إلهام لشعوب أخرى عانت من الظلم والتنكيل. تجربته حاسبت وصالحت ووضعت جنوب أفريقيا على مسار جديد فى التاريخ.
القضايا الكبرى تنتدب رجالا كبارا. فكرة الوفاء للتاريخ امتدت مع «مانديلا» إلى رموز الثورة الإفريقية. زار دولا فى مقدمتها مصر فور إطلاق سراحه وعندما وصل القاهرة طلب من بروتوكول رئاسة الجمهورية أن يجلس بجواره فى عشاء رئاسى على شرفه صديقه القديم «محمد فائق» الذى تعاون معه لإزاحة الحكم العنصرى وكان بينهما موعد لقاء تأخر (٢٧) عاما. زار قبر «عبدالناصر» وقد ولدا فى عام واحد (١٩١٨) قائلا: «إنه زعيم زعماء أفريقيا».
قاوم بقدر ما يستطيع نزعات الغرور الإنسانى ولم تستخفه مشاعر الحب التى يلقاها، حاول طوال الوقت أن يقف على الأرض ويذكر نفسه بأنه إنسان. عندما تقف الإنسانية اليوم حزينة على رحيله فهى تدرك قيمته التى تلخصها رفعته الإنسانية.. تلك الرفعة أدركها المصريون بالحفاوة الاستثنائية التى لقيها فى زيارته القاهرية.. تدفقت عليه حشود فى ندوة بجامعة القاهرة تهتف باسمه و«ضاع حذائى فى الزحام» على ما يروى بنفسه، غير أن نظام الحكم فى ذلك الوقت لم يدرك قيمته فى الضمير الإنسانى ولا ضرورات بناء علاقة خاصة مع جنوب أفريقيا الحرة أو التوقف عن التنكر للقارة الأفريقية وقضاياها، وعندما أشرف «مانديلا» على ملف بلاده لتنظيم كأس العالم لكرة القدم بعد سنوات من مغادرته الاختيارية للمقعد الرئاسى ترددت فى أروقة الحكم عبارة استهترت بالرجل على نحو فيه جهل مروع: «إنه شوية كراكيب» على ماروى لى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» نقلا عن مسئول كبير ذات صباح فى منتصف مايو (٢٠٠٤). بدا «هيكل» منزعجا من العبارة وحماقاتها: «الرجل وراءه أسطورة». والمعنى أن من يقابله يستشعر التاريخ حيا ويراه يتحرك أمامه وربما يتأمل يديه التى سلمت عليه أو يدور حول نفسه منتشيا بلحظة لن تتكرر مرة أخرى.
كان ثمن الاستهتار بالقارة وقضاياها ورموزها صفرا موجعا فى السباق إلى المونديال وامتد الثمن الفادح إلى إطاحة النظام كله فى (١١) فبراير آخر بعد واحد وعشرين عاما من إطلاق سراح «مانديلا».. وقصته مع رفاقه مهداة للنخبة السياسية فى مصر بعد ثورتين.