والله تستاهل يا قلبي.. لقاء «السيدين» درويش ومكاوي - ياسر علوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 5:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

والله تستاهل يا قلبي.. لقاء «السيدين» درويش ومكاوي

نشر فى : الجمعة 10 يناير 2014 - 9:20 م | آخر تحديث : الخميس 10 أبريل 2014 - 6:43 م

1. كمحاولة لمكافحة التلوث السمعي الذي نعيشه هذه الأيام، أقدم لكم هذا التسجيل شديد العذوبة والجمال للمونولوج الدرامي العظيم لسيد درويش "والله تستاهل يا قلبي"، بصوت سيد مكاوي على العود، ولكن في حفل حي وبحضور جمهور، وهذا أمر نادر إذ عادة ما تكون تسجيلات سيد مكاوي بالعود في حلسات خاصة. المونولوج من كلمات أمين صدقي، وألحان سيد درويش، مقام "شوق فزا" (مقام شديد الندرة، فرع من مقام العجم، لم يلحن منه سيد درويش فيما أعلم سوى هذا المونولوج).

2. كلمات المونولوج للعظيم المنسي أمين صدقي، وهو أهم مؤلف مسرحيات كوميدية في النصف الأول من القرن العشرين، ومبتكر أشهر شخصيتين في المسرح الكوميدي المصري في هذا الوقت: شخصية كشكش بك لنجيب الريحاني، وشخصية البربري عثمان عبد الباسط لعلي الكسار، منافس الريحاني مسرحيا في هذا الوقت. والمونولوج من مسرحية "راحت عليك" للريحاني، التي رد عليها علي الكسار لاحقا، وفقا لمنهج "القافية" السائد في عناوين مسرحيات فرقتي الكسار والريحاني المتنافستين في ذلك العصر، بمسرحية "ولو"!!.

3. أهمية هذا السياق المسرحي، هو أن هذا يعتبر من أوائل المونولوجات الدرامية في تاريخ الموسيقى العربية حسب علمي. وهو التعريب المصري لقالب aria في الغناء الأوبرالي، أو المسرح الغنائي الغربي، وهو عبارة عن فاصل غنائي يأتي عادة في لحظة انتقال درامية بين فصول المسرحيات أو الأوبرات، وعادة ما يعكس أزمة وجودية للبطل، وشكوى مريرة من عنف الأقدار...الخ، ويمثل نقطة تحول درامية في المسرحية. هذا بالضبط ما تقوله كلمات هذا المونولوج بشكل شديد العذوبة.

4. كيف ينعكس هذا لحنيا؟ ينعكس ببساطة في أن قالب المونولوج ينفرد بين مختلف قوالب الموسيقى العربية (الدور، الطقطوقة، الموشح...الخ)، بأنه يأخذ مسارا خطيا، لا تتكرر فيه الكوبليهات (المذهب والأغصان)، وإنما لحن يتطور دراميا في خط مستقيم بدون أي تكرار. يعني ذلك أننا لن نسمع أي لازمة أو جملة موسيقية تتكرر بين الكوبليهات على النحو الدارج في سائر القوالب الموسيقية. لماذا؟

5. لأن هذا القالب، بطابعه الدرامي، لا يحتمل العودة لكوبليهات أو لازمات موسيقية لأغراض السلطنة، وإن يجب أن يمضي في خط مستقيم وفقا لتطور مضمون الكلمات. هذا بالضبط ما فعله سيد درويش في هذا اللحن.

على فكرة، تطور المونولوج لاحقا بشكل جذري على يد الملحن العبقري محمد القصبجي، المعاصر لسيد درويش، فقد ولدا معا في نفس العام، وأشهر مونولوجات القصبجي هو اللحن الرائع "رق الحبيب" الذي غنته سيدة الغناء العربي أم كلثوم، ويعد أهم إسهامات القصبجي في تطوير الموسيقى العربية، ويستحق عودة له في مقال قادم.

6. لو فهمنا طبيعة المونولوج الدرامي لحنيا، ومضمونه المأخوذ عن قالب الـaria الأوبرالي، لعرفنا أهمية إطلاع الملحن على موسيقى الدنيا كلها، لكي يطور فنه المحلي.

لا معنى هنا للتضاد المفتعل والسخيف بين "الأصالة" و"العالمية". الفنون، كالثقافات والعلوم ومختلف جوانب الحضارة، تتطور عبر التلاقح المتبادل بين الحضارات والثقافات المختلفة. هكذا، لم يكن ممكنا أن يظهر هذا القالب الموسيقي إلا على يد اثنين من العباقرة المصريين، المطلعين بدقة على الموسيقى العالمية، والموسيقى الإيطالية –مهد فن الأوبرا- بشكل خاص. ( أظن أن ذلك تم في من خلال الجالية الإيطالية في الإسكندرية في حالة سيد درويش، هذه فرضية للتفكير من عندي لا أملك عليها دليلا إلى الآن، ولكنها تفسر لماذا كان قرار سيد درويش قبل وفاته بالسفر لإيطاليا لدراسة الموسيقى الأوبرالية، والذي مات قبل أن ينفذه). أما القصبجي، فكان ينفرد بين مجايليه بأنه دارس أكاديمي للموسيقى، وليس مجرد ملحن موهوب، وكان يرتزق في بداياته بتدوين النوتة الموسيقية لبعض ملحني الجيل السابق له.

7. المهم، اختار سيد درويش لهذا اللحن، مقاما طريفا ونادرا، يتناسب مع جدة قالب المونولوج وغرابته على أذن المستمع العربي في ذلك العصر، وهو مقام "شوق فزا".

هذا المقام يمثل مزيجا من مقامي العجم والحجاز (يبدأ المقام في أول 4 نوتات موسيقية منه من مقام العجم، ثم ينتقل في النوتات الثلاثة الباقية لمقام الحجاز). بالمناسبة، يخلط الكثيرون بين هذا المقام النادر ومقام آخر هو مقام الزنجران (الذي لحن منه زكريا أحمد رائعته "يا حلاوة الدنيا")، وهو أيضا مزيج من العجم والحجاز، ولكنه المزيج المقلوب لمقام شوق فزا (أي أن الزنجران يبدأ حجاز ثم يتحول لعجم، وليس العكس كما في حالتنا هذه).

8. هكذا، تتناسب جدة المقام على أذن المستمع، مع جدة قالب المونولوج نفسه، بما يهيئ أذن المستمع لحالة وجدانية لم يألفها في قوالب العصر الشائعة (الدور، والموشح، والطقطوقة، وكلها قوالب تسمح بتكرار اللحن، والتركيز على التطريب وليس على التطور الدرامي للحن). ثم إن الطابع الهجين لمقام "شوق فزا" (المكون كما قلنا من مزيج من مقامي العجم والحجاز) يسمح بالتنويع في اللحن (بالانتقال من أجواء العجم إلى أجواء الحجاز ثم العكس) وفقا للتطور الدرامي للكلمات، دون المزيد من إرباك المستمع، الذي يسمع قالبا لم يألفه من قبل هو المونولوج الدرامي، بنقلات مقامية كثيرة ومعقدة تخرجه من جو المقام الأصلي. اختيار هذا المقام النادر إذن، يعكس أن سيد درويش يعرف بالضبط ما يفعل.

سيد درويش بقى، وما أدراك ما سيد درويش!!

9. أما الغناء، فحدث ولا حرج عن سيد مكاوي، الذي أظن أنه كان يحفظ تراث الموسيقى العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين عن بكرة أبيه.

أداؤه مذهل، وقادر بشكل غير عادي على التعبير عن أجواء اللحن، ونقلاته. يعكس هذا الأداء القدرات الدرامية العظيمة التي ميزت أهم ألحان سيد مكاوي. بالمناسبة موهبة سيد مكاوي الكبرى هي في الحقيقة في الألحان المسرحية، ونظرا لاختفاء المسرح الغنائي في عصره تقريبا، اتخذت هذه الموهبة المسرحية الأشكال التالية: الأوبريتات التي عرفتها الإذاعة المصرية في الستينات، وكانت تسمى الصور الغنائية (أشهرها أوبريت الليلة الكبيرة ، والأوبريت العظيم "المكن" وكلاهما من كلمات صلاح جاهين) بالإضافة لألحان سيد مكاوي الوطنية العظيمة (مثال: الدرس انتهى، الأرض بتتكلم عربي، ولا في قلبي ولا عينيا إلا فلسطين....الخ)، وتجربته الاستثنائية، التي لم يسبقه لها ملحن آخر، في تلحين دواوين شعرية كاملة (مثال: ديوان الرباعيات لصلاح جاهين، أو ديوان "من نور الخيال" لفؤاد حداد)..

10. الحقيقة، سيد مكاوي مظلوم من المستمع الحديث الذي لا يعرف إلا أغانيه التقليدية (ما تفوتنيش أنا وحدي، حلوين من يومنا... الخ)، تغيب عنه روائع ما قدمه هذا الموسيقار العبقري، بحس درامي، وقدرة تعبيرية رائعة تظهر في أدائه لهذا المونلوج الدرامي العظيم لسيد درويش. سأحاول أن أتناول في مرة قادمة الألحان المسرحية، الدرامية والتعبيرية، للفنان العظيم سيد مكاوي، و لكن هذا حديث آخر.

11. ملحوظة أخيرة، هذا المونولوج عرضة للكثير من الفتاوى على الإنترنت، فهناك مواقع تقول أن هذا المونولوج من مقام العجم أو الزنجران، وأخرى تنسب الكلمات لبديع خيري أو حتى سيد درويش نفسه... وعلى رأي المثل المصري العظيم، اللي ميعرفش يقول عدس!!.

عموما.. عسى أن يكون هذا المونولوج دعوة للاغتراف من الكنز العظيم للموسيقى المصرية في القرن العشرين، والالتفات للروائع المنسية لسيد درويش، وسيد مكاوي.

استمتعوا وتسلطنوا!

*كاتب وأكاديمي

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات