ثقافة الانحناء فى مواجهة ثقافة الاستواء - سامح فوزي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثقافة الانحناء فى مواجهة ثقافة الاستواء

نشر فى : السبت 10 أبريل 2010 - 9:36 ص | آخر تحديث : السبت 10 أبريل 2010 - 9:36 ص
لماذا يبدو مجتمعنا عصيًا على التحول الديمقراطى؟
السؤال يبدو مكررا، وأحيانا متأخرا، وقد يرى البعض أنه ساذج. إجابات عديدة قدمت لتفسير ذلك منها التخلف الاقتصادى، والاستبداد السياسى، وغياب التربية الدينية، وضعف المجتمع المدنى، وتشرذم المعارضة، الخ. لست فى مجال المفاضلة بينها، وقد تكون الإجابة فيها جميعا. لكننى فقط أضيف عاملا آخر، إداريا فى المقام الأول، يتعلق ببنية التفكير الإدارى سواء فى دواوين الحكومة أو الشركات الخاصة أو فى ساحات العمل الاجتماعى، هو «الاستبداد الإدارى»، مما جعل مؤسسات المجتمع عبارة عن طبقات تعلو إحداها الأخرى من السادة والتابعين. لا مجال فيها إلى الإرادة والمشيئة الفردية، بل الانسحاق والتبعية المقيتة.

خلال الأيام الماضية ــ حيث اللقاءات والمكالمات الهاتفية للتهانى بالأعياد ــ توافرت لى بالمصادفة عدة قصص وروايات حدثت فى مؤسسات متفرقة، ما بين حكومية وخاصة، وإحداها فى مؤسسة دينية، مما أشعرنى بأن الثقافة الإدارية المصرية ليست فقط عقبة أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكنها تجاوزت ذلك إلى تشويه مفهوم الفرد ذاته، وتقويض أى أساس ممكن لإقامة مجتمع ديمقراطى.

(1)
فى نظريات التنمية الحديثة الفرد هو الهدف والغاية، أى أن التنمية له وبه. لم يعد كمًّا مهملا، أو عبئا بشريا، لكنه صار مواطنا ممكنا، يعبر عن الإرادة والمشيئة فى كل الأنشطة التى يقوم بها، ولاسيما فى المؤسسات التى يباشر فيها عمله الأساسى. الظاهر أن الفرد لم يولد بعد فى المجتمع. والمؤسسة ــ بمعناها الحقيقى ــ لم تولد هى الأخرى. ما نراه مجرد مؤسسات ريفية فى ثوب مدنى، تعرف الشكل الخارجى للعمل المؤسسى أما باطن العمل فهو إقطاعى ريفى، يقوم على ثقافة الانحناء. وعدا استثناءات محدودة صارت المؤسسة أداة فى يد الأفراد المتنفذين والمتحكمين لإضفاء شرعية على الهيمنة ــ وأحيانا الجموح ــ الشخصى فى الإدارة، وتحول العاملين من رصيد بشرى تمتلكه المؤسسة إلى مجرد تابعين لسادة.

يتشكل الفرد فى المؤسسة سواء كانت مدرسة أو ديوانا حكوميا أو شركة خاصة أو جمعية أهلية أو حتى مؤسسة دينية من خلال جملة من الأساليب التى بموجبها يحمل ــ رضاء أو كرها، أفكار وآراء الرئيس ــ المدير ــ القائد ــ الملهم.

هناك من يمتثل إلى هذه الحالة كرها، وهناك من يختار التماهى الرضائى، حسب تعبير د. مصطفى حجازى فى مؤلفه المهم «مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» حيث يرى أن الشخص المقهور يسعى دائما إلى التشبه بمن يقهره. يعنى ذلك أن يتحول التابع إلى حامل لأفكار وآراء سيده الجديد ــ أى رئيسه فى العمل، ويتجه ــ بوعى أو بدون وعى ــ إلى التماهى مع شخص رئيسه إما تزيّدا أو تزلفا. هنا يحدث ابتذال للمفاهيم.. ويصبح الخضوع تعبيرا عن»احترام»، والتفكير الحر مرادفا للكبرياء والخيلاء.

(2)
التبعية، وغياب القدرة على اتخاذ قرار، والرغبة فى إرضاء السادة هى سمة الإدارة الأساسية. هؤلاء التابعون لهم مجتمعهم الخاص الذى يسوده التناحر والصراع، والخوف المتبادل فى العلاقات الوظيفية فيما بين التابعين أنفسهم، واللجوء إلى الوشايات والنميمة لنيل رضاء السيد ــ المدير.

وهناك صور متنوعة لهؤلاء التابعين...

هناك التابع الأمين الذى ينفذ ما يطلب منه دون نقاش أو حوار أو رغبة فى فهم زائد لا يوجد ما يبرره. وهناك حامل الحقيبة الذى يحمل حقيبة سيده واقعا ومجازا.. وحمل الحقيبة له عدد من السمات المجازية أبرزها: القيام بالتشهيلات فى العلاقات الإنسانية (بدءا من حمل صينية الطعام، وشراء الحاجات الشخصية من الأسواق، وانتهاء بأعمال القوادة). وهناك العصفورة حيث يتحول الشخص إلى مجرد آذان تتنصت، وأعين تتلصص، بحثا عن معلومة أو خبر ــ مهما كان تافها ــ ينقله للسيد خلف الباب المغلق. كل مؤهلاته فى الحياة هو نقل الأخبار. ولا يجرى النظر فى عمله إلا من هذه الزاوية فقط. من جراء ذلك يسود العمل مساحة عريضة من الوشايات والأكاذيب والافتراءات بسبب هؤلاء المتلصصين الذين اختزلوا كيانهم الإنسانى فى أذن تسمع، وعين ترى، وذهن ينسج القصص، ويعيد إنتاج الأوهام والأحقاد الشخصية، والمواقف السابقة فى نسيج روايات يلقى بها على مكتب شخص ــ توهم فى نفسه أنه قابض على كل شىء، وعادة ما يتصرف على أساسها، أو على أفضل تقدير بوحى منها.

من هنا نجد السادة مزاجيين، متقلبين، يعصف بهم الهوى الشخصى، يتصرفون عادة بناء على ما تصل آذانهم من وشايات وأحقاد فى شكل روايات. والسبب بديهى ومفهوم. حين تصبح الكفاءة فى العمل لا محل لها من الإعراب، تتحول صغائر الأمور إلى معايير لتقييم الأداء ــ أعنى الولاء.. وهناك حامل المبخرة يسخر خلالها الشخص ما يملك من مهارات وإمكانيات للترويج لسيده، التبشير به، والإشادة بمواقفه، والحديث بلسانه فى كل محفل تطلب ذلك أو لم يتطلب. ويمتلك عادة هؤلاء «جينات الخضوع» بمعنى أنهم يحملون المباخر للتسبيح بحمد أى شخص طالما أنه ظفر بالكرسى المرهوب.

وهناك وعاظ السلطان الذين ليس لهم عمل سوى إضفاء الشرعية على تصرفات السيد، وتقديمها على نحو مقبول على المستوى العام. ينحصر دورهم الأساسى فى تبرير «الأخطاء»، وإضفاء مشروعية على جنوح وشطط، وأحيانا تردى مستوى السيد. يضفون المبررات التى تبدو ــ ظاهريا ــ منطقية على أشياء غير واقعية بالمرة. وأخيرا هناك حاملو الأختام وهؤلاء يتحدثون باسم السيد، يحملون إليه الأوراق، يوجهون خطواته، ويقومون بالنيابة عنه بالأعمال التى لا يود القيام بها. مثال ذلك «السكرتير» الثقيل الذى يغلق الباب أمام من يريد رؤية سيده، يعزله عن العالم المحيط به، بدعوى حمايته، والحفاظ على وقته «الثمين»، وعادة ما يحدث تزييف وعى للسيد من جراء وجود هؤلاء حاملى الأختام.

(3)
إذا كان هذا هو مجتمع التابعين، فإن مجتمع السادة لا يبدو مختلفا. كل سيد هو تابع لسيد آخر، والشعور بالاضطراب وعدم الأمان والخوف من التقلبات العلوية يسيطر على الموقف. وكل شخص يعرف أن صعود منافس له يهدد وجوده ذاته، لذا يتجه إلى حرق البدائل، وحصار الآخرين، وتأليب التابعين على بعضهم بعضا، ونشر الوشايات، وإطلاق الشائعات، والضلوع فى المؤامرات.. الخ.

والسادة يديرون مجتمع التابعين بعدة وسائل منها السوط، يلهب به دائما ظهر التابع له. هو يضرب حتى يتعلم، وقد يضرب حتى يتعلم غيره عملا بالقاعدة الشهيرة «اضرب المربوط يخاف السايب». ويشمل العقاب أنماطا من القهر تترواح بين الإهانة الشخصية، والنبذ الاجتماعى، والحرمان من المزايا الوظيفية.. الخ. وشعار السيد فى تعامله مع تابعيه أن «الجندى الفارغ مشاغب»، يعنى هذا أن التابع له لا يجب أن يلتقط أنفاسه، حتى لا يتحدث مع غيره من التابعين، أو يتشاجر معهم، أو قد تدفعه بقايا إنسانيته ــ فى حالة الفراغ ــ للتفكير فى حالة الخضوع التى يرزح تحت وطأتها. وقد يتجه السادة إلى إفساد التابعين لهم لضمان ولائهم.

فإذا كان الخوف يتحقق بالسوط والإهانة، فإن الولاء يأتى بالفساد. إما بتصعيد من لا يستحق منهم إلى مواقع قيادية، أو منحهم مزايا وظيفية ومالية لا يستحقونها.. ويتجه السادة أحيانا إلى العودة إلى ثقافة ما قبل المجتمع الحديث بإحياء السلالة. فى الماضى كان العبد يعرف من سلالته، أما فى العصر الحديث فإنه يجرى إحياء مستمر للسلالات على أسس جديدة يسهل من خلالها تصنيف التابعين، وتحديد مكانتهم وأدوارهم. فى هذا الصدد تبرز التحزب والشللية على أسس جغرافية (المنحدرون من محافظة ما)، أو دينية (أصحاب دين معين أو مذهب معين)، أو ثقافية (المنتمون إلى مدرسة فكرية بعينها- مثل قراء داعية معين).. الخ.

(4)
هل هذه الثقافة تدفع فى اتجاه الديمقراطية؟ لا أعتقد ذلك، ولكن الأهم أنها لا تدفع فى اتجاه التقدم. سادة وتابعين، ووشايات وأسافين، وفساد وإفساد، ما يحدث هو سبب إحباط حقيقى لقطاعات واسعة من الشباب، واللافت أنه صار مثل الوباء الذى يسرى فى جسد المجتمع، لا فرق بين كيان حكومى وغير حكومى، مدنى أو دينى، الكل يدار بمنطق السادة والتابعين، ثم يسألون عن الحرية، وتجديد الخطاب الدينى، واللا مركزية، والتمكين، والقدوة، إلى آخر الشعارات التى لا تستهوى السادة، ولا يجرؤ التابعون على التفكير، مجرد التفكير فيها.

 

سامح فوزي  كاتب وناشط مدني
التعليقات