مقترح جمالى - صحافة عربية - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 10:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقترح جمالى

نشر فى : الثلاثاء 10 أبريل 2018 - 10:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 10 أبريل 2018 - 10:30 م

هل نكتب لنصف الواقع أم لنناقشه؟ ما المطلوب من الأدب؟ هذا الأدب الذى ليس أفضل الفنون ولا أعظمها، ولكنه الفن الذى يحتفى بالحياة وبكل الفنون على أنواعها المختلفة.
المرآة التى تعكس أوجه الجمال فى هذا العالم هى بالضبط مجموع الكلمات التى تسمى أدبا، هى النّسق الذى نرتب به الأشياء حين نرغب فى نقلها إلى الآخر بما نتقنه من لغة، ولكنه ليس بالكلام العادى، بل «ما فوق العادى»، بانتقاء الكلمات، وتنسيقها كما تنسّق الزهور، كما تُنَسّق الألوان على لوحة، على قطعة قماش، كما تنسق المرأة ثيابها فتبدو جميلة مع أنّها بغير ثياب قد تكون منفِّرة. قد يكون هذا هو الأدب، وقد يكون شيئا آخر، قد يكون الرؤية المقرّبة للشيء، كمن يدخل فى غابة كثيفة، تحيط بها الأشباح، والخرافات المرعبة فيما فى قلبها يختفى قصر الأميرة النائمة…
هل يصف أو يناقش؟ أم أنّه أكبر من ذلك، فهو يعيد بناء الأشياء ويعطيها صفات جديدة ومفاهيم غير التى نعرفها؟ فبإمكان الأدب أن يجعل الحيوانات تحكى، وتقول شعرا، وتخرج الحكمة من أفواهها ومع أن الأمر لا يُصَدَّق إلا أننا نصدقه ونستدل به على كلامنا، كأن نقول إن « الثعلب إن لم يبلغ العنب يقول إنه حصرم»… بعض الكتب نمنحها سمة الأدب، وبعضها لا، نحن أيضا نصنف النصوص حسب قدرتها على اختطاف مشاعرنا دفعة واحدة، حسب دروب السرد التى نسلكها مع الكاتب عبر عمران نصه، وتقديم أبطاله أو رؤاه المختلفة لحياة نتقاسمها معا لكنه يُعبّر عنها بشكل أكثر بلاغة منا، يرتقــــى الأدب درجات عن مستوانا الحكائى، لهذا ما يدهشنا فى مستويات عمرية باكرة يتوقف عن إدهاشنا حين نبلغ سن النضج، وكلما تقدم بنا العمر تشدّدنا فى خياراتنا وقراءاتنا وكأن ذائقتنا أيضا تكبر فى العمر وتزداد نضجا…!

هندسة المكان المتخيَّل لا تشبه الواقع فى شيء، لأنها تبنى وفق معطيات يعرفها الكاتب وحده، كل شيء مرتبط بالفكرة التى تنمو فى مخيلته وتنقسم بشكل أوتوماتيكى بين الأعمال والأحداث وبين الأشياء التى تؤثث الفضاء المكانى ويلعب الوصف دوره حسب «جيرار جنيت» فى منح الروح لتلك الأشياء بمد جسور بين النصوص.

لا شيء يشبه الأدب وكل شيء يشبهه، نتاج يحمل ما نراه ونعيشه، يترجم أقوالنا وخلافاتنا واختلافاتنا ومشاعرنا ولكنه يظل صنيع المخيلة.

يسأل الكاتب هل أنت البطل فى نصك؟

فيرتعب من تلك الإسقاطات البسيطة لنصه، وقد حمّله الكثير من الأفكار والقراءات والملخصات التى جمعها من أبحاث كثيرة فى الماضى والحاضر، يطرح الكثير من الأسئلة الصعبة ويقدم إجابات لا حصر لها ثم يأتى من ينسف جهده بتقزيمه بسؤال بائس: هذا أنت وأنت لم تكتب سوى نفسك؟
ولعلّه كتب نفسه، لكن فى خلال عملية الكتابة وطرح ما لديه من الأفكار ومناقشتها هل يظل النص انعكاسا لشخصه؟
نعرف أن الرسام قد يستسلم لسطوة لون واحد أكثر من باقى الألوان وهو يرسم لوحته، قد يذهب دوما فى اتجاه واحد فى خيارات خطوطه وألوانه، ولكن الكاتب لديه مجسّم وهمى فى رأسى وهو ينقله عبر فترات زمنية مختلفة خلال سنة أو سنتين أو ربما عشر سنوات إلى مخطوطه، باختيار ما أمكن من التعابير المناسبة لنصه. حتى وإن كان النّص مجرد لعبة كلمات، تحتاج لتركيز وترتيب صارم لإنجاحها إلا أن الفكرة لا تقبل بأن يكون ذلك الترتيب صحيحا من الباب اللغوى فقط، من الباب البلاغى، إذ يلعب الزمن دورا مهما فى التحكم فى الأنساق أيضا.

نص اليوم ليس بالنص الذى كتب منذ عشرين سنة. هناك كُتّاب ماتوا بعد عشرين عملا من تجربتهم الأدبية، هناك من ماتوا بعد كتاب واحد، وهناك من قاموا من توابيتهم بعد نصف قرن من الموت الإجبارى لأن نصوصهم خالفت قواعد الزمن وتخطت ذائقة عصرهم. هناك من كتبوا لقارئ عاصروه وذهبوا فى صمت بعد أن عاشوا التهميش والإهمال والنبذ ولكنهم نالوا أمجادا لا نهاية لها بعد قرن من الزمن، وإن لم تجب نصوصهم عن الأسئلة المعقدة حول سر نجاحهم المتأخر وفشلهم الآنى خلال فترة حياتهم، فهذا يعنى حتما أن ما احتوته كتبهم ظل خارج اهتمامات القارئ خلال حقبتهم، وأن ما أُثير من أفكار ونوقش فى تلك المتون الحكائية كاشف بما يكفى على أن الأدب قائم فى الغالب على ما يناقشه لا على ما يصفه.

وأحب أن أذكر هنا نموذج «أنا كارينينا» لليو تولستوى، الرواية التى حمّلها عصارة أفكاره وختم بها تجربته الأدبية والتى عبَرت كل الحدود بين الأمم والأديان والثقافات، فوجد فيها المتدين غايته والملحد غايته، وبالرغم من أن التدين أنواع والإلحاد أنواع أيضا فإن النص الذى أثار جدلا كبيرا وطويلا مقارنة بكل الأجيال التى قرأته انتهى انتصارا للمؤسسة الدينية عند البعض وانتهى عكس ذلك عند البعض الآخر، ذلك أن المناقشة التى أثارها تولستوى تولاها من الطرفين وبحث فى العيوب والأسباب والدوافع والغايات عند الطرفين. ولن نعرف أبدا هل كتب ما خلص إليه من أفكار أم أنه فتح مناقشتها عند كتابته لتلك الرواية، وأن اتساع تجربته وفيض ما بلغه من حكمة هو الذى التصق بذلك الوصف البديع لشخصياته وأمكنته وبث فيها ولع الحب وشغف الحياة بما فيهما من مبالغات فى لحظات الصراع الحاسمة.

أما السؤال الذى يبقى عالقا فهو مِمَّ جرّد الكاتب نصه وماذا أضاف إليه مقارنة مع الوقائع التى أوحت إليه بكتابته؟ لأن مرجعية النص دوما واقعية حتى وإن خرج إلينا بعباءة مختلفة، ويبدو أن براعة الكاتب تكمن هنا، حين يبرع فى الوصف ويناقش بذكاء، أو لنقل أنه يحقق مآربه حين يعرف قارئه جيدا، إذ يبدو أحيانا أن سطوة فكرة «المثالية» وكتابة نص أدبى بمواصفات ترضى النقاد غالبا ما تنتج نصوصا فاشلة، فالناقد أيضا ابن عصره وبيئته ولا يمكنه أن يكون مقياسا جيدا للأدب، ما يُبقى فكرة الحكم على أى نص أدبى مجرّد فكرة نسبية.

حتى حين ينساق الناقد خلف نظرية معينة ويقسم النص إلى عناصر يخضعها لمنهجه النقدى، تبقى محتويات النص فى ترابطها هى ما يؤثر فى القارئ، وهى ما يمسى أدبا، أمّا تفكيكه وعرضه قطعة قطعة كأنه محرك سيارة مثلا فهذا ما لم يقنعنى كقارئة على الأقل، وحتى حين أنجزت أطروحتى، منصاعة لنظام البحث الأكاديمى، كنت على قناعة أن النصوص التى كانت بين يدى لا يجوز أن نخلع عنها وقار الأدب ونتأملها عارية أمامنا مفرغة من روحها الفكرية والإيديولوجية وغيرها.
لطالما اقتنعت أن الأدب هو المقياس الحقيقى لأى مجتمع ومن خلاله يمكننا أن نلمس مستوى الشعوب على السلم الحضارى، لهذا رجحت دوما أن الأدب هو مقترح جمالى لإصلاح ما أفسده الإنسان.

بروين حبيب
القدس العربى ــ لندن

التعليقات