(1)
كالعادة وبصدفة معتادة! أبحث عن كتابٍ تائه، ضال وسط الركام! أزيل صفًّا من هنا فأجد صفا ثانيا وثالثا! وأبحث وسط كومة هناك فأجد وراءها أكواما وراء أكوام! إنها الحياة التى تلازمنا منذ الميلاد وحتى الرحيل! فى النهاية لا تعثر على ما تريد لكنك تفاجأ بالعثور على ما يشغلك كليا ويملك عليك أمرك تماما! أكتشف وسط الركام والزحام والأكوام 3 أو 4 كتبٍ لأستاذ جليل وناقد قدير، لم ينل أبدا ما يستحقه من شهرة وحضور ومكانة طيلة العقود الماضية ولا أعلم إن كان ذلك وراءه عزوف شخصى، أم لأنه أمضى سنوات طويلة خارج مصر يدرس بجامعة الكويت، لا أعلم! لم تكن كتبه تلك تفارقنى أبدًا طيلة مرحلة الطلب والدراسة، فى الليسانس والدراسات العليا معا وما بعد ذلك! ما أسرع مرور الزمن! ما يزيد على العشرين عامًا على آخر قراءة لى لهذه الكتب المهمة الرصينة! أتحدث عن الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم الهوارى أستاذ الأدب والنقد بجامعة الزقازيق، والأستاذ بجامعة الكويت، وصاحب الكتب الممتازة عن «نقد الرواية فى الأدب العربى الحديث»، و«نقد المجتمع فى حديث عيسى بن هشام»، و«البطل المعاصر فى الرواية المصرية» (وأظنها كانت أطروحته للدكتوراه التى أنجزها بجامعة القاهرة تحت إشراف الناقد الكبير الدكتور شكرى عياد). (2) لم ألتق الدكتور أحمد الهوارى ولا مرة ولا أعلم إن كان ما زال فى الكويت أم عاد إلى مصر، لكنى أعلم جيدًا أنه كان يحظى بتقديرٍ عال وغالٍ من أساتذتنا الأجلاء، وأنه كان أحد تلاميذ الدكتور شكرى عياد المقربين، تتلمذ عليه ونال درجة الماجستير والدكتوراه تحت إشرافه إذا لم تخنى الذاكرة! وكان أساتذتنا (بخاصة المرحوم الدكتور سيد البحراوى، والمرحوم الدكتور جابر عصفور) يوجهوننا إلى قراءة كتبه المشار إليها، باعتبارها من الكتب التى تؤسس نموذجًا يُحتذى فى ذلك الوقت لطريقةٍ فى البحث والجمع والتبويب والتحليل، وبخاصة كتابيه عن «نقد المجتمع فى حديث عيسى بن هشام» (1981)، و«نقد الرواية فى الأدب العربى الحديث» (الطبعة الثانية عن دار المعارف 1983) والكتابان يستحقان فعلًا وقفة متأنية فى التعريف بهما، وبقيمتهما ومكانتهما فى تاريخ دراسة النوع الروائى وتلقيه النقدى فى الأدب العربى الحديث، المتعلق بالرواية فى العقود الخمسة الأخيرة.. (3) أما الكتاب الأول؛ «نقد المجتمع فى حديث عيسى بن هشام»؛ فقد دلَّنا عليه ووجهنا إليه أستاذى المرحوم الدكتور سيد البحراوى، كان رحمه الله أول من حدثنا حديثًا مستفيضًا عن كتاب «حديث عيسى بن هشام» للمويلحى، وقد أفاض فى تحليل جوانب الشكل القصصى والروائى ودلالاته الاجتماعية؛ وللأمانة فقد كان تحليل البحراوى مدهشًا ومثيرًا للإعجاب على مدى عدة محاضرات، ثم قرأت التحليل الوافى الذى قدَّمه البحراوى للنص فى كتابه المهم «محتوى الشكل فى الرواية العربية ـ النصوص الأولى». وقد أحالنا البحراوى فى معرض المناقشات والتحليلات التى طُرحت من قبلنا نحن الطلاب لـ«حديث عيسى بن هشام» إلى كتابين تناولا النص من منظورين مختلفين؛ الأول كتاب الناقد الكبير الدكتور شكرى عياد «القصة القصيرة فى مصر ـ دراسة فى تأصيل فن أدبى» والذى تناول فى الفصل الرابع منه ما أطلق عليه «تطوير المقامة» نصَّ حديث عيسى بن هشام وصلاته بفن المقامة فى التراث العربى، وصلاته كذلك بفن القصة القصيرة الوافد الغربى الجديد. أما الثانى؛ فكان كتاب الناقد وأستاذ الأدب بجامعة الكويت، الدكتور أحمد إبراهيم الهوارى «نقد المجتمع فى حديث عيسى بن هشام». (4) وقد أثرى هذان الكتابان معرفتنا النقدية بالأثر الجمالى لهذا النص التأسيسى وأبعاده الاجتماعية؛ وربطا بذكاء شديد بين تشكيلاته السردية وتأصيل الأنواع الأدبية الحديثة، والتحليل الاجتماعى لتلك الفترة التى كان يصطرع فيها القديم والجديد، وتيارات التجديد والتقليد.. إلخ. لكن ظل كتاب الدكتور الهوارى -بالنسبة لى- غنيا جدا بمادته ورؤاه وتحليلاته المستفيضة للشكل الروائى وللغة الروائية، وتوسيع دائرة القراءة والتحليل من النص إلى خارجه والعكس، وقد استغرقنى هذا الربط الممتع بين النص السردى (على خلاف فى تصنيفه بين شكل المقامة العربية القديمة تارة، والرواية الحديثة تارة أخرى) وبين السياق الاجتماعى والثقافى والحضارى الذى أفرزه أو كتب فى إطاره.. ولعل قراءة هذا الكتاب قد وجهتنى مبكرًا جدّا إلى ضرورة إيلاء هذه الفترة من عمر النهضة والحداثة المصرية (الربع الأخير من القرن التاسع عشر) مزيدًا من البحث والتنقيب والدرس والتحليل، فالرجل لم يتوقف عند مفاهيم «النقد» و«النوع الروائى» فقط، بل تعداه إلى بحث البنية الأساسية للمجتمع ونقده الذى يصوره كتاب «حديث عيسى بن هشام» للمويلحى.. (وللحديث بقية)