ليلة الهجوم على البرادعي - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 6:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليلة الهجوم على البرادعي

نشر فى : الخميس 10 ديسمبر 2009 - 9:38 ص | آخر تحديث : الخميس 10 ديسمبر 2009 - 9:38 ص

 ما إن أصدر الدكتور محمد مصطفى البرادعى المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية بيانه الذى ألمح فيه إلى إمكانية قبوله الترشح لمنصب رئيس الجمهورية فى الانتخابات القادمة، حتى بدأ هجوم كاسح عليه من أنصار الوضع الراهن. بعض الهجوم كان عاقلا، لكن كثيرا منه كالعادة كان مسفا، وعكَسَ الهجوم بصفة عامة شعورا بالقلق من السيناريو المحتمل حال ترشح البرادعى لمنصب الرئيس، مع أننى كنت أتصور أن النظام القائم يسعده أن يجتذب إلى حلبة المنافسة الرئاسية شخصية بوزن الدكتور البرادعى كسبا لصدقية الانتخابات «التعددية»، لكن هذا الهجوم كشف عن أن «الصدقية» بالنسبة للبعض تبدو «عددية» أكثر منها «تعددية».

أشار العاقلون من المهاجمين إلى أن ابتعاد البرادعى عن مصر طيلة ما يزيد على ربع القرن ربما يؤثر فى حسن إدراكه للواقع المصرى ومشكلاته، وهى مسألة احتمالية، ولا شك أن كثيرين منا يتذكرون أن مدة ابتعادهم بالمسافات عن الوطن كانت من أوثق فترات ارتباطهم به، وانغماسهم فى تفاصيل مشكلاته اليومية، ومن أكثرها صفاء فى رؤية مستقبل الوطن.

أضاف آخرون أن طبيعة العمل فى منظمة دولية كوكالة الطاقة الذرية لا تتناسب وأعباء الرئاسة المصرية، وهذا أيضا قد يكون حقيقيا، ولكنه ليس مؤكدا، فكم من المسئولين الدوليين رفيعى المستوى تولوا مناصب تنفيذية فى بلدانهم بدرجة عالية من التميز بعد انتهاء وظيفتهم الدولية، بل لقد أضافت الخبرة الدولية على نحو واضح إلى إمكانات العمل الوطنى لديهم، كما هو الحال مع الدكتور بطرس غالى الذى يرأس حاليا مجلس حقوق الإنسان فى مصر بعد توليه مناصب دولية رفيعة أهمها الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى أننا لا نبدو فى مصر شديدى الحرص على تحقيق التناسق بين الخبرات السابقة والمسئوليات اللاحقة، ولدينا مؤخرا تجربة تعيين وزير سابق للإسكان رئيسا لواحدة من أهم الشركات البترولية، فيما لم يعرف عنه فى السابق أدنى صلة بهذا القطاع الحيوى من الاقتصاد المصرى.

وأخيرا عاب المهاجمون على البرادعى أنه وضع نفسه فى موقع من يملى الشروط كى يدخل معترك الانتخابات الرئاسية، ونسى هؤلاء أن «شروط» البرادعى أو مطالبه مطروحة منذ زمن فى الساحة السياسية المصرية كالإشراف القضائى الكامل على الانتخابات والرقابة الدولية عليها.

بعد هذا يبدأ الهجوم العاقل فى الانحسار تدريجيا كى يخلى مكانه لهجوم أقل عقلا إلى أن تصل الأمور فى النهاية إلى حد الهجوم الشخصى المسف. فجأة أدرك البعض أن البرادعى الذى انتخب لمدد ثلاث رئيسا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحصل على جائزة نوبل للسلام، ومنحه الرئيس مبارك قلادة النيل العظمى التى لا تمنح إلا للملوك والرؤساء ومن قدموا خدمات جليلة للإنسانية لم يكن إلا مديرا فاشلا للوكالة، فقد كان مديرا بدرجة مفتش! ركز على التفتيش على الأسلحة النووية على حساب الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وكأنه هو الذى فجر قضايا الملفات النووية فى العراق وإيران وغيرهما، وكأنه ـ وليست الدول النووية العظمى ـ الذى يقيم العراقيل فى وجه تلك الاستخدامات.

وقد ترك البرادعى أيضا لدى هؤلاء جميع ملفات الوكالة مفتوحة دون تقدم أو تدهور، وكأن الملفات الساخنة فى جميع المنظمات الدولية وصولا إلى الأمم المتحدة قد حلت، وعلى رأسها ملف الصراع العربى ـ الإسرائيلى الذى جاوز الستة عقود عمرا، بل وكأن الملفات المحلية المفتوحة فى مصر على سبيل المثال قد حلت أو على الأقل بقيت على حالها. ولعل مهاجمى البرادعى فى هذه المسألة بالذات لم يلحظوا أنهم تطابقوا فى مواقفهم مع قناة الجزيرة التى اختارت فى آخر أيام الرجل كمدير لوكالة الطاقة الذرية أن تأتى بصحفى عربى مغمور يعيش فى فيينا كى يقول كلامهم نفسه، ويصدر الأحكام ذاتها على الرجل.

عند هذا الحد توقف العقل عن المساهمة فى الهجوم، وفتحت الأبواب على مصاريعها للنيل الشخصى من الرجل عقابا له على أنه فكر يوما فى أن يرشح نفسه للمنصب الرئاسى، وهذه فى النهاية شهادة له، لأن عديدين غيره رشحوا أنفسهم بالفعل فى الانتخابات السابقة دون أن يلقوا هجوما أو ثناء، وهو ما يعنى أن المشاركين فى الهجوم الشخصى الردىء على البرادعى يدركون حقيقة وزنه. فمن قائل إن رغبته فى الترشح «أضغاث أحلام»، أو إذا شئنا استخدام تعابيرهم نفسها أن هذه الرغبة إفراز لـ«ليالى الوهم فى فيينا»، أو لأوهام «ما بعد التقاعد»، فإذا كانت رغبة رجل بوزن البرادعى فى الترشح لرئاسة الجمهورية تعد أوهاما فمن تراه يصلح للترشح إذن؟

نصل بعد ذلك إلى إطلاق حملة معلومات مغلوطة وافتراءات صريحة حول الرجل، فهو لدى المهاجمين مزدوج الجنسية، كونه يحمل الجنسية السويدية منذ سنوات، الأمر الذى نفاه الرجل نفيا قاطعا، وهو متواطئ فى تسهيل الغزو الأمريكى للعراق فى 2003، مع أننى أذكر حينها أننا كنا نتابع بإعجاب ظاهر وأنفاس لاهثة «الصراط المستقيم» الذى كان البرادعى يحاول أن يسير عليه إبان أزمة ما قبل الغزو بنفيه وجود أى دلائل على امتلاك العراق ترسانة نووية دون أن يستفز القوة العظمى الهائجة فى ذلك الوقت، والوثائق بين الرجل وخصومه على أى حال، والبينة على من ادعى.

ولعل من أطرف ما قيل فى معرض التطاول الشخصى على البرادعى، وأكثره مدعاة للسخرية والإحباط فى الوقت نفسه، أنه كان الأخير أو قبل الأخير على دفعته فى وزارة الخارجية، ولو صح هذا فهو يعنى أحد أمرين: إما أن معايير الاختيار فى دفعته بالذات لم تكن سليمة بحيث وضعت كفاءة مثله فى ذيل القائمة، وإما أن مصر هى بحق بلد العباقرة على النحو الذى يجعل آخر دفعته يحصل بهذه السهولة على درجة الدكتوراه، ويتبوأ منصب مدير واحدة من أهم المنظمات الدولية ثلاث مدد متتالية، وهو إنجاز لم يسبقه إليه أى مصرى فى حدود علمى.

بل إن ثمة تشكيكا جرى فى ولاء الرجل الوطنى، فقد كان أصلا «مرشح الأمريكيين والأوروبيين»، وليس مرشح مصر الرسمى، ومن الحقيقى أنه لم يكن مرشح مصر الرسمى بالفعل، لكن هذا لا يعنى أن الرجل كان أداة بيد الولايات المتحدة أو غيرها، وكلنا يذكر الممانعة وعدم الارتياح اللذين كانا يشوبان موقف الولايات المتحدة إزاء التجديد له لمدة ثالثة كمدير للوكالة، ناهيك عن أنه من الغريب أن تهاجم الرجل دوائر معينة لعلاقة مدعاة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية مع أن علاقات مصر الرسمية بهذه الدولة العظمى تعد من قبيل القضايا الاستراتيجية التى لا تمس. غير أن الأكثر غرابة أن بعض المهاجمين نسى نفسه واتهامه للبرادعى بالتواطؤ مع الولايات المتحدة، وعاد ليتهمه فى موضع آخر بأنه باع نفسه لإيران!

أترانا نكون قد لاحظنا بعد هذا الخطاب التشهيرى الفاقد للصدقية أن أحدا من المهاجمين لم يسأل البرادعى عن برنامجه الانتخابى لو حدث ورشح نفسه؟ وكأن المطلوب هو وأد أى رغبة فى الترشح للمنصب الرئاسى تأتى من خارج السياق، وليس الحوار حول مستقبل وطن. أترانا نكون قد لاحظنا أيضا أن جميع المهاجمين قد تجاهلوا حقيقة أن فكرة الترشح لرئاسة الجمهورية لم تولد أصلا فى ذهن البرادعى، وإنما أنتجتها مداولات النخبة المعارضة للوضع الراهن فى مصر، التى كانت ترد على القائلين بأن مصر ليس فيها خارج التركيبة السائدة من يصلح للمنصب الرئاسى؟ وأن أعضاء هذه النخبة ومعهم ممثلون لأجهزة إعلامية عديدة مصرية وعربية وعالمية أخذوا يلحون على أسماء معينة كالدكتور البرادعى والسيد عمرو موسى كى تفصح عن موقفها من دعوة النخبة المعارضة لها للترشح فى الانتخابات الرئاسية القادمة مما دفع بأحد هذه الأسماء ـ أى الدكتور البرادعى ـ إلى أن يقول ما قال؟

لا يخامرنى أدنى شك فى أن الدكتور البرادعى ليس مرشحا «شعبيا» حتى الآن، وإنما هو مرشح نخبة معارضة، ويعنى هذا أن مهام جسيمة تواجهه إن أراد أن يتحول إلى مرشح شعبى، وأولاها أن يكون لديه برنامج سياسى واضح يمكن الاصطفاف السياسى خلفه أو ضده، ومن المؤكد لَدَىّ أن ترشح البرادعى أو غيره من الشخصيات الوطنية ذات المكانة الرفيعة لا جدوى من ورائه إن بقيت قواعد اللعبة على ما هى عليه، ومن المؤكد كذلك أن طرح البرادعى أو غيره مرشحا لرئاسة الجمهورية من بعض الأحزاب القائمة هو إشهار إفلاس علنى لهذه الأحزاب طالما بقيت عاجزة من خلال حركتها السياسية عن أن تفرز مرشحين جديرين من داخلها للمنصب الرفيع بدلا من استضافة مرشحين مرموقين كالبرادعى أو غيره،

ومن المؤكد أيضا أن بعض الأحزاب لديه قيادات تصلح للترشح، لكن قواعد اللعبة صارمة، فضلا عن أن أحزاب المعارضة وقواها ستفشل بالتأكيد ـ طالما بقيت أمورها على ما هى عليه ـ فى الاتفاق على مرشح واحد، الأمر الذى سوف يضعف فرص مرشحيها جميعا. وبالتالى فإن حملة الانتخابات الرئاسية القادمة ما زالت تنتظر من جميع الحالمين بالتغيير جهودا مضنية سوف تواجه عقبات شاقة ليست أهمها حملات السباب التى تدشن هنا أو هناك ضد أى مواطن تسول له نفسه أن يأخذ مسألة الترشح لرئاسة الجمهورية على محمل الجد. ذلك أن الزبد يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية