جزيرة المستكة - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جزيرة المستكة

نشر فى : الأحد 11 يناير 2015 - 8:35 ص | آخر تحديث : الأحد 11 يناير 2015 - 8:35 ص

على الرغم من كل تعقيدات الموقف الاقتصادى والسياسى فى اليونان، فإن خامس أكبر جزرها وهى كوس (Chios) لفتت الأنظار بشكل مبهج الأسبوع الماضى، عندما أعلنت اليونسكو زراعة المستكة بالشكل التقليدى المعروفة به الجزيرة منذ القدم جزءا من التراث الثقافى الإنسانى غير المادى. وهى قصة يطول شرحها إذ يرجع تاريخها لأكثر من ثمانية قرون، لكنها دليل على حسن استخدام الموارد الطبيعية لبلد ما واستثمارها بطريقة تحفظ هوية المكان وثرواته. وبما أن المستكة يطلق عليها أحيانا «الذهب الأبيض»، تماما كما القطن، وبما أن التصريحات التى وردت فى الصحف المصرية خلال الأسبوع نفسه تشير جميعها إلى نهايته المأساوية، فمن الصعب ألا نقارن بين «ذهب مصر الأبيض» و«ذهب اليونان الأبيض»... وفى هذه الحال، المستكة تربح بكل المقاييس.

•••

انتشرت صور أشجار المستكة بزهورها وثمارها الحمراء، كما تبدو عادة فى فترة الربيع بين شهرى مارس ومايو، على مختلف المواقع العالمية تعليقا على إعلان اليونسكو، وهى صنف من أشجار الفستق، يزرع فقط فى جزيرة كوس الواقعة ضمن بحر إيجة، فى مقابل السواحل التركية. وتحديدا تنتشر هذه الأشجار فى 22 قرية، جنوبى الجزيرة، كان شبابها قد هربوا منها للعمل بالسياحة أو التجارة عبر البحار، حتى العام 1990 عندما تم رد الاعتبار للمستكة، وبدأ بعض السكان فى تسويقها بشكل عالمى حتى ضمت رابطة منتجى المستكة 6500 عضو، كلهم من الجزيرة الساحرة التى لا تتعدى مساحتها 842 كم مربع والتى تصدر سنويا أكثر من عشرين طنا من المستكة.

عاد الشباب إلى مسقط رأسه، وبعضهم أخذ يتدرب على طرق الزراعة والحصاد التقليدية للمستكة لأنها تشكل مصدرا هاما للدخل، سواء كعمل إضافى أو بيزنس أساسى، فكيلو المستكة الواحد يُباع بحوالى 80 يورو.

يتم وخز الأشجار التى يصل متوسط عمرها إلى المائة سنة وتصل إلى قمة النضج والعطاء فى سن السبعين.. يتم وخز الجذع والأغصان بآلة حادة، بين شهرى يوليو وأكتوبر، فتظهر القطرات الصمغية على السطح والتى تشبه أحيانا بالدموع.. تترك لتجف فى الهواء الطلق، ثم تجنى يدويا، وتصبح هذه البلورات الصافية التى نستخدمها فى الطبخ وصناعة الحلوى والطب والتجميل، فهذا النوع الخاص من المستكة الطبيعية له خواص مضادة للالتهاب وللأكسدة وللبكتيريا، بل يردد البعض أنها تقى من أورام المعدة والقولون وتقلل من الأزمات القلبية بامتصاصها للكوليسترول الردىء.

•••

لفترة طويلة لم يعرف السكان كيف يسوقون منتجهم بطريقة حديثة، وخلال الستينيات توقف التصدير إلى الشرق الأوسط، واقتصر الأمر على الفرنسيين الذين يستوردون المستكة الأصلية لصناعة العطور والأمريكان الذين يستخدمونها فى المنتجات الدوائية. بعدها بفترة غير قصيرة ظهر يانيس ماندلاس، الشاب الذى افتتح سلسلة من المحال لبيع المستكة ومشتقاتها. وفى غضون ثلاثة أشهر فقط حقق محله الأول فى كوس نجاحا واسعا، ووصل رقم أعماله إلى 600 ألف يورو سنويا، وهو الآن فى انتظار افتتاح فروع أخرى فى بيروت وجدة ودبى ونيقوسيا، وعرض عليه بعض المهتمين مقار أخرى فى نيويورك ولندن. أنت تشترى منتجات مختلفة برائحة ونكهة المستكة سواء أكانت عطورا أم حلوى أم مشروبات كحولية وقد غلفت بورق مزين برسومات تحمل الكثير من ذكريات القرنين التاسع عشر والعشرين، فالجزيرة أيضا بخلاف كونها موطن المستكة الأصلى لها تاريخ طويل ميزها سياحيا ومعماريا.

الفرس مروا من هنا واستولوا على المكان، كذلك فعل الأتراك فى العام 1566، وعندما حاول أهل الجزيرة الانضمام للثورة فى سنة 1821 والتمرد عليهم، قرر العثمانيون أن يجعلوهم عبرة لمن لا يعتبر، فكانت مجزرة كوس فى العام التالى: قتلوا 25 ألفا وباعوا 45 ألفا آخرين فى أسواق النخاسة وهرب عشرة آلاف يونانى إلى الجزر المجاورة فى بحر إيجة.. ولم تتحرر كوس سوى فى العام 1912، بعدما ظلت أحداثها عارا على المجتمع الدولى.

•••

دموع المستكة استمرت عبر كل هذه القرون حتى تحت حكم العثمانيين، وصارت حاليا مصدر الدخل الثانى للجزيرة بعد التجارة البحرية، بل تحولت إلى طاقة أمل ووحدة وإلهام تصاغ حولها الحكايات والأغنيات.. هذا التراث الحى المتكامل الذى ينمو حول زراعة المستكة أعلن انتصاره وقدرته على البقاء، بخلاف القطن المصرى الذى اختفت أغانيه وتراجعت مساحته المزروعة إلى 300 ألف فدان فى مقابل 1.292 مليون فدان عام 1980، بسبب السياسات الزراعية والاقتصادية الفاشلة. فى حين أن وردة القطن الطويل التيلة لا تقل بهاء عن وردة المستكة الحمراء التى تتحول إلى سمراء عندما تنضج وتصبح جاهزة لأن تسلق مع الفول والحمص، فيما يعرف فى مناطق شرق الجزائر بالمسلوق، أو هكذا تقول الحكاية.

التعليقات