الأمم المتحدة والاتحاد من أجل السلام - طاهر حمدي كنعان - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 4:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأمم المتحدة والاتحاد من أجل السلام

نشر فى : السبت 11 يوليه 2009 - 4:45 م | آخر تحديث : السبت 11 يوليه 2009 - 4:45 م

 سجل التاسع من هذا الشهر (يوليو 2009) انقضاء خمس سنوات على إفتاء محكمة العدل الدولية، المرجع الأعلى فى العالم لأحكام القانون الدولى، بموقف هذا القانون من «الأفعال الإسرائيلية فى القدس الشرقية المحتلة وسائر الأراضى الفلسطينية المحتلة الأخرى»، وآخرها إنشاء جدار الفصل العنصرى مغتصبا المساحات الشاسعة من هذه الأراضى.

وقد أتت هذه الفتوى استجابة لطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الطارئة المنعقدة إعمالا للقرار رقم377 المعروف بقرار «الاتحاد من أجل السلام»، والعائد أصلا إلى مبادرة الولايات المتحدة ذاتها بأن أى موضوع يهدد السلم العالمى ويعجز مجلس الأمن عن تناوله بسبب فيتو دولة كبرى، يحال إلى «جلسة طارئة» تعقدها الجمعية العامة للبت فيه، ويحمل قرارها فيه القوة ذاتها كما لو كان قرارا من مجلس الأمن. وبقوة مثل هذا القرار خاضت الولايات المتحدة الحرب الكورية، وبمثله أجبرت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على الانسحاب الكامل إثر عدوان السويس فى 1956. وكانت صحة الرجوع إلى 377 فى الموضوع الفلسطينى أول ما نظرت فيه المحكمة الدولية، فارتأت أن قرار مجلس الأمن بموضوع «خارطة الطريق» لم يعالج موضوع الجدار، وأن «بحث مجلس الأمن للوضع فى الأراضى الفلسطينية المحتلة يعرقله» التصويت السلبى من قبل عضو دائم بعينه من أعضاء المجلس (الولايات المتحدة الأمريكية) الأمر الذى عطل فاعلية مجلس الأمن فى أحوال تجلى فيها بوضوح التهديد للسلم والأمن الدوليين». وعليه فإن تولى الجمعية العامة النظر فيه متسق تماما مع مقتضيات «الاتحاد من أجل السلام».

ولقد بذل الفلسطينيون والعرب موارد وطاقات جبارة لتجاوز الفيتو الأمريكى وحمل الأمم المتحدة على عقد جلسة «الاتحاد من أجل السلام» واستصدار حكم القانون الدولى بخصوص الاحتلال الإسرائيلى وممارساته، ما وصفه الأمير زيد بن رعد، رئيس الفريق الأردنى حينئذ، «بأنه النصر القانونى على هزيمة1967». لكن المعيب والمغضب انحدار الفلسطينيين والعرب نحو دفن ذلك النصر فى حضيض الإهمال الإجرامى والتعامل معه وكأنه لم يكن، بل إن بعضهم شارك فى التزوير الدعائى الصهيونى الذى يبخس قيمة الرأى القانونى لأعلى مرجعية قانونية دولية بوصفه «رأيا استشاريا غير ملزم». الصحيح هو أنه باستثناء «الأحكام» التى تصدرها المحكمة فى النزاعات التى تحيلها عليها أطراف متخاصمة، فإن كل ما تنطق به المحكمة هو «الرأى القانونى»، بما فى ذلك جوابها على سؤال الجمعية العامة عن حكم القانون الدولى بخصوص الجدار وغيره من ممارسات الاحتلال. وقد تكرست الطبيعة الملزمة لذلك الرأى القانونى حين تبنته الجمعية العامة بأغلبية ساحقة بقرارها ذى الصلة «بالاتحاد من أجل السلام» المعادل لقرار من مجلس الأمن.

إن القيمة الكبرى لفتوى المحكمة الدولية لا تقتصر فقط على مجرد الإدانة القانونية للأفعال الإسرائيلية بل تكمن فى الجدية المنهجية التى تناولت فيها مهمتها، فلم تتردد فى فتح ملف الحقوق الوطنية الفلسطينية من جذورها، متناولة كامل أبعاد انتهاك إسرائيل للقانون الدولى والذى يشكل بناء «الجدار» حلقة واحدة منه ليس إلا. لهذا فإن المائة صفحة أو أقل التى يستغرقها نص الفتوى تشكل أخطر وثيقة عن القضية الفلسطينية منذ وعد بلفور كونها تبرز الحقائق التاريخية والتكييفات القانونية التى تفضح مدى التعدى الصهيونى على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى، وتعيد الحياة إلى أساسيات تلك الحقوق غير القابلة للتصرف رغم جهد العدو فى طمسها، وذلك فى سياق محاجة قانونية تجعلها قطعة من القانون الدولى يتعذر تحديها، ما يرشح تلك الوثيقة لأن تكون المرجعية النهائية لشروط السلام العادل والشامل بدلا من المرجعيات الفاشلة التى اتخذتها القيادات الفلسطينية والعربية ابتداء بـ242 وعبر أوسلو وانتهاء بخارطة الطريق تحت شعار «الأرض مقابل السلام»، والمتضمنة كل تحفظات إسرائيل على حجم الأرض ومضمون السلام.

قامت المحكمة الدولية بمراجعة شاملة لأساسيات الحقوق الفلسطينية منذ تحررت شعوب الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب، وانتدبت عصبة الأمم بريطانيا على فلسطين بموجب ميثاق الانتداب الذى ينص على أن «شعب فلسطين هو من الأقوام التى وصلت درجة من التقدم يمكن معها الاعتراف مؤقتا بوجودها كأمم مستقلة رهنا بالمساعدة من قبل الدولة المنتدبة.. حتى يحين الوقت الذى تصبح فيه قادرة على النهوض وحدها». وتذكر المحكمة بأنها فى فتوى سابقة لاحظت أن «الانتداب أقيم لصالح سكان الأقاليم ولصالح البشرية عموما.. ويقوم على مبدأين أساسيين: مبدأ عدم ضم الإقليم إلى الدولة المنتدبة، ومبدأ أن رفاهية وتقدم الشعب تحت الانتداب هو «أمانة مقدسة فى عنق المدنية».

استعرضت المحكمة المراحل التى اجتازتها القضية الفلسطينية منذ تخلى بريطانيا عن الانتداب وقيام إسرائيل على اغتصاب الأرض الفلسطينية وتهجير سكانها وصولا إلى حرب1967، حين وقعت الأرض الفلسطينية خارج حدود الهدنة فريسة للاحتلال الإسرائيلى المباشر، ولشتى الانتهاكات لمسئوليات القوة المحتلة وفى مقدمتها إجراءات ضم القدس الشرقية وحولها، ما استدعى قرارات مجلس الأمن المتكررة بأن «جميع التدابير والإجراءات التشريعية والإدارية التى اتخذتها إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، والتى غيرت أو تهدف إلى تغيير طابع ووضع مدينة القدس المقدسة.. هى لاغية وباطلة.. بما فيها القانون الذى يجعل القدس عاصمتها الكاملة والموحدة ما يشكل انتهاكا للقانون الدولى».

وتصدت المحكمة بكل قوة لدحض الادعاء الفاجر الذى روج له الحلف الإسرائيلى ــ الأمريكى فى أن الأراضى الفلسطينية التى احتلت عام1967هى مجرد أراض متنازع عليها! هنا تفتى المحكمة بصورة قطعية أن قواعد القانون الدولى المستقرة منذ اتفاقية لاهاى الرابعة لسنة1907 تعتبر الأراضى محتلة عندما توضع بالفعل تحت سلطة الجيش المعادى ويشمل الاحتلال الأراضى التى بسطت فيها هذه السلطة وصار بالإمكان ممارستها. بناء عليه فإن الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى عام1967والواقعة بين الخط الأخضر والحدود الشرقية السابقة لفلسطين زمن الانتداب خلال الصراع المسلح بين إسرائيل والأردن هى أراض محتلة ووضع إسرائيل فيها هو وضع السلطة القائمة بالاحتلال، وليس للأحداث التى حدثت بعد ذلك فى هذه الأراضى، (من مصادرة للأراضى والممتلكات، وبناء المستوطنات وضم للقدس) أى أثر يؤدى إلى تغيير هذه الحالة. وجميع هذه الأراضى (بما فيها القدس الشرقية) مازالت أراضى محتلة ومازالت إسرائيل لها وضع السلطة القائمة بالاحتلال.. وهذه بالضرورة هى الأراضى بعينها التى أنشأت فيها إسرائيل أو تعتزم إنشاء الأشغال الخاصة بالجدار».

وهنا تفتى المحكمة بضرورة اعتماد مبدأين من صميم القانون الدولى، الأول: لا قانونية أى اكتساب للأراضى ناشئ من التهديد باستعمال القوة أو استعمالها، والثانى: مبدأ تقرير المصير للشعوب الوارد فى ميثاق الأمم المتحدة والقاضى بأن «كل دولة عليها واجب الامتناع عن أى إجراء قسرى يحرم الشعوب.. من الحق فى تقرير المصير». ومن منطلق هذين المبدأين تعمد المحكمة إلى دحض الدعوى الإسرائيلية بأن اتفاقية جنيف الخاصة بواجبات الدولة القائمة بالاحتلال تجاه الأراضى والشعب الخاضع للاحتلال لا تنطبق على الأراضى الفلسطينية المحتلة، لافتة إلى أن الدول الأطراف فى اتفاقية جنيف الرابعة أكدت تكرارا «سريان اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضى الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وحولها»، كما أن مجلس الأمن فى قراره 271 لعام 1969 دعا إسرائيل إلى التقيد بدقة بأحكام اتفاقيات جنيف والقانون الدولى الذى يحكم الاحتلال العسكرى. وعاد وكرر تأكيده ذلك فى قراره681 لعام 1990.

أما فيما يتعلق بالمستوطنات فتلفت المحكمة إلى «أن اتفاقية جنيف الرابعة لا تجيز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءا من سكانها المدنيين إلى الأراضى التى تحتلها. ويحظر هذا الحكم أيضا أية تدابير تتخذها القوة القائمة بالاحتلال فى تنظيم وتشجيع نقل أجزاء من سكانها إلى الأراضى المحتلة»، وإلى أن مجلس الأمن أكد تكرارا على أن ممارسة الاستيطان «لا تستند إلى أى أساس قانونى» ودعا إسرائيل إلى إلغاء تدابيرها السابقة والامتناع عن اتخاذ أى إجراءات تؤدى إلى تغيير الوضع القانونى والطبيعة الجغرافية وتؤثر بصورة مادية على التكوين الديموجرافى للأراضى المحتلة.. بما فيها القدس وألا تقوم على وجه الخصوص بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضى العربية المحتلة» (القرار 446 لعام 1979). وتستنتج المحكمة تكرارا أن «إقامة المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية تمثل خرقا للقانون الدولى».

أما حين تناقش المحكمة قانونية إنشاء الجدار تحرص على دحض تبريرات إسرائيل لإقامته بالتفصيل. ولإعطاء القارئ فكرة عن صدقية المحكمة نكتفى بتناولها الحجة الإسرائيلية» بأن تشييد الجدار يتماشى مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ومع حقها الأصيل فى الدفاع عن النفس.. (صحيح أن) المادة 51 من الميثاق تقر بوجود حق طبيعى فى الدفاع عن النفس فى حالة شن دولة اعتداء مسلحا على دولة أخرى. بيد أن إسرائيل لا تدعى أن الاعتداءات عليها يمكن أن تنسب لدولة أجنبية.. فالحال هى: «أن إسرائيل تمارس السيطرة فى الأرض الفلسطينية المحتلة وأن التهديد الذى تعتبره حسبما ذكرت إسرائيل نفسها، مبررا لتشييد الجدار ينبع من داخل تلك الأرض وليس خارجها.. ومن ثم» لا يمكن لإسرائيل بأى حال الادعاء بأنها تمارس الحق فى الدفاع عن النفس». ألا ينطبق هذا الحكم القانونى القاطع على الجرائم التى ترتكبها إسرائيل فى غزة وغيرها بدعوى الدفاع عن النفس؟!

أما فى موضوع «الجدار» بالذات فتخلص المحكمة إلى «أن جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بالوضع غير القانونى الناتج عن تشييد جدار فى الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وما حولها. وجميعها ملزمة أيضا بعدم تقديم العون أو المساعدة فى الإبقاء على الوضع الناتج عن هذا. ويتعين أيضا على جميع الدول مع احترامها لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى، أن تعمل على إزالة أى عائق ناتج عن إنشاء الجدار يحول دون ممارسة الشعب الفلسطينى لحقه فى تقرير المصير». وعلاوة على ذلك، تلتزم جميع الدول الأطراف فى اتفاقية جنيف الرابعة بأحكامها القاضية بحماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب، وبأن تكفل امتثال الأطراف الأخرى (إسرائيل) للقانون الإنسانى الدولى على النحو الوارد فى تلك الاتفاقية.

أخيرا، لا آخرا، تتجاوز المحكمة موضوع «الالتزامات التى أخلّت بها إسرائيل» لتتناول الالتزامات التى تهم جميع الدول، وأولها هو الجزم بأن «حق الشعوب فى تقرير المصير بصيغته المنبثقة عن ميثاق الأمم المتحدة ومن ممارستها هو حق لجميع الناس» وأن على كل دولة واجب العمل، مشتركة مع غيرها أو منفردة على تحقيق مبدأ تساوى الشعوب فى حقوقها وحقها فى تقرير مصيرها بنفسها،وفقا لأحكام الميثاق، وتقديم المساعدة إلى الأمم المتحدة فى الاضطلاع بالمسئوليات التى ألقاها الميثاق على عاتقها فيما يتعلق بتطبيق هذا المبدأ..».

خلاصة القول أنه من غير المقبول أن يستمر الفلسطينيون والعرب بالدوران فى دوامة المفاوضات العبثية على أمل تنفيذ «خارطة الطريق» فى الوقت الذى تبين المحكمة الدولية أن خارطة الطريق هذه تفشل فى تناول الممارسات الإسرائيلية التى تخرق فعلا القانون الدولى وتهدد السلام. وبدلا من ترداد لازمة «حل الدولتين» والانشغال بـ«تسويق المبادرة العربية» ألا يتعين تغيير قواعد اللعبة والتمسك بقواعد القانون الدولى التى أفتت المحكمة الدولية بوجوب اعتمادها فى جميع ما يتعلق باحتلال إسرائيل للأراضى الفلسطينية والعربية؟ وألا تستحق وثيقة الفتوى القانونية الدولية أن تعتمد «المرجعية الأم» للشرعية الدولية فيما يخص مستقبل مفاوضات السلام والشرط المسبق لأية مبادرات عربية مقبلة؟ وألا يتوجب منذ الآن تطوير إستراتيجية تقود إلى إحياء المقاطعة العربية والعزل الدولى لإسرائيل باعتبارها دولة عنصرية متمردة على القانون الدولى،على غرار العزل الذى مورس على الحكومة العنصرية فى جنوب أفريقيا؟

طاهر حمدي كنعان  مفكر عربي، نائب رئيس وزراء الأردن الأسبق.
التعليقات