مباريات كأس العالم سلعة عامة لا يجوز احتكارها - طاهر حمدي كنعان - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 1:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مباريات كأس العالم سلعة عامة لا يجوز احتكارها

نشر فى : الأربعاء 30 يونيو 2010 - 10:08 ص | آخر تحديث : الأربعاء 30 يونيو 2010 - 10:08 ص

 منذ نشأتها، بقيت مباريات كرة القدم عبر العقود والألفيات، مصدرا غنيا للمتعة الشعبية البريئة للأغنياء والفقراء على السواء. وتحتل مباريات «كأس العالم» الذروة فى بواعث تلك المتعة البريئة.

ويضاف إلى براءة تلك المتعة المردود الاجتماعى لممارسة النشاط الرياضى الجمعى، هذا النشاط الذى يؤدى وظيفة تربوية واجتماعية فى غاية الأهمية، وهى تعميم وترسيخ ثقافة التنافس الإيجابى بين الشبيبة خصوصا وفى المجتمع ككل.

 

ويأتى فى مقدمة تلك الثقافة نزعة العمل المعروفة «بروح الفريق» والمتمثلة بالتعاون وتقسيم المهمات بين أعضاء الفريق الواحد الرامى إلى التفوق فى أداء معين. وتقوم النوادى الشبابية والرياضية بواجبات الرعاية لذلك النشاط، الذى يطلبه المجتمع بكليته قبل أن يطلبه أفراد وفئات بعينها.

لهذه الأسباب يحمل النشاط الرياضى كما تحمل المشاركة فيه والإعلام عنه كامل صفات «السلع العامة» التى يتم إنتاجها بطلب المجتمع ككل ولانتفاع المجتمع ككل، والتى لا يجوز لذلك تقنين إنتاجها وحصر الانتفاع بها فى الأفراد أو الفئات المقتدرة على دفع مقابل مالى لقاء ذلك الانتفاع، كما لا يجوز لأى مجتمع أن يسمح بجعلها مصدر ارتزاق أو انتفاع بأن يسمح لأى منتج أو مشارك فى إنتاج النشاط الرياضى أو الإعلام عنه وتوزيعه من خلال ممارسة الاحتكار فى ذلك الإنتاج أو التوزيع.

ولقد ساد ذلك الوضع «المنفتح» نشاط الأندية الرياضية فى سائر العالم التى تلقت باستمرار الدعم المادى اللازم فى مجتمعاتها بمشاركة كل من القطاع العام وقطاع الأعمال والمجتمع الأهلى.

أما إعلام المباريات والإعلام بالوسائل المسموعة والمرئية فاستمر متاحا بالمجان لكل من يقتنى وسيلة استقبال، ناهيك عن المكاسب التى تجنى من الشركات العالمية لقاء «رعاية» المباريات والإفادة من المجال الإعلامى والدعائى الذى يتيحه الإقبال الجماهيرى على مشاهدتها.

ومعنى كون النشاط الرياضى ومبارياته «سلعة عامة» يتأصل بالتمييز الذى يقيمه علم الاقتصاد بين السلع العامة والسلع الخاصة، سواء كانت بضائع أو خدمات، وبالتمييز الذى يقيمه المجتمع بين أسلوب التعامل الأخلاقى مع السلع من النوعين كليهما.

السلع الخاصة هى التى يتنافس فى إنتاجها عدد كثير أو قليل من المنتجين، تلبية لطلب عدد كثير أو قليل من المستهلكين الخواص، أى أفراد من المستهلكين النهائيين، أو منشآت إنتاجية تستخدم السلعة كمدخلات لإنتاجها، على أن يخصص المشترون طاقتهم الشرائية للإنفاق بما يكفى لتغطية «التكاليف الخاصة» التى يقتضيها إنتاج تلك السلع. والحافز على هذا الإنفاق هو «المنفعة الخاصة» التى يجنيها المستهلك من استهلاكه أو حيازته لتلك السلع.

ويثابر المستهلك الراشد على شراء السلعة، ما دام انتفاعه الحدى بها معادلا أو زائدا على سعرها الذى يعكس بدوره الكلفة الحدية لإنتاجها. ويكون «الطلب الخاص» على السلعة الخاصة هو المجموع البسيط لطلب المستهلكين الخواص، وفقا لتلك القواعد: أى تساوى المنفعة الحدية للمستهلكين المباشرين لتلك السلعة مع التكاليف الحدية للمنتجين المباشرين لها.

أما «السلعة العامة»، فهى التى يحتاجها المجتمع ككل، أو تحتاجها هيئات أو تكوينات اجتماعية كبيرة، لكن كلفة إنتاجها أكبر من القدرة الشرائية للأفراد. فلا يكفى الطلب الفردى لحفز أى منتج على إنتاجها. كما يصعب أو يستحيل اجتماع عدد كاف من الأفراد على توحيد قدراتهم الشرائية لتغطية كلفة إنتاجها، ولذلك لا يحصل إنتاجها أو توريدها إلا إذا تكفل بذلك المجتمع ككل أو إحدى التكوينات الاجتماعية الكبيرة «الحكومة المركزية، الحكومة المحلية، المجلس البلدى».

وبمجرد إنتاجها، فإن طبيعتها «العامة» تجعل الانتفاع بها متاحا تلقائيا للجميع، وغير منحصر بالأفراد حتى لو قاموا أو ساهموا بتغطية تكاليف إنتاجها، بل تعم منفعتها على المجتمع كاملا، ما يجعل معظم الناس يستنكفون عن المساهمة الطوعية فى تكاليف إنتاجها، مفضلين «الركوب بالمجان».

والأمثلة على السلع العامة كثيرة، أهمها الخدمات الحكومية، كالإدارة العامة والدفاع الوطنى والأمن العام، والتربية والتعليم، والخدمات الصحية، والبنى التحتية والمرافق العامة فى أى اقتصاد، كالطرق والاتصالات والطاقة الكهربائية وإسالة المياه والصرف الصحى. لهذا السبب، أنيط إنتاج الخدمات العامة وبناء المرافق العامة والبنى التحتية بمؤسسات الدولة.

وحين تطلبت طبيعتها أن تكون احتكارا، أنيط هذا الاحتكار بالدولة أو مؤسساتها العامة، حتى تراعى فى إدارته وفى تسعير منتجاته المصلحة العامة تحديدا.

وحتى فى الدول التى أخذت بخصخصة بعض المرافق العامة، وارتأت أن تعهد للقطاع الخاص بإنتاج أو بإدارة بعض تلك المرافق، اقترن ذلك بالحرص الشديد على أن تنشئ الدولة هيئات للتنظيم والرقابة على سلوك القطاع الخاص فيما فوض إليه من تلك المرافق بحيث يسود جو المنافسة فى أسواق تلك المرافق، قدر الإمكان، وبحيث تسعر الخدمات المنتجة بما يتناسب مع تكاليفها الفعلية، ويمنع نشوء ريع احتكارى ينتفع منه المنتج فى القطاع الخاص بلا مبرر.

لكن ما يعبر أفضل تعبير عن الفساد النسقى الذى يميز الرأسمالية المتوحشة على المستوى العالمى هو أن تقوم إدارة مباريات «كأس العالم» (الفيفا) على إدارة هذه المباريات بصورة تكرس ممارسة احتكارية معيبة تؤدى إلى الإقصاء الشامل للجماهير الفقيرة فى العالم لاسيما فى دول العالم الثالث عن حقها فى ذلك المرفق الدولى العام، وحرمانها من المشاهدة المجانية لمباريات كأس العالم.

المدهش أن الحكومات والأفراد يستسلمون إلى هذا «القضاء» دون احتجاج، فنجد دولة مثل لبنان تدفع مبلغا باهظا بالنيابة عن شعبها لكى يتاح لجميع مواطنيها الفرصة المتكافئة لمشاهدة المباريات، ونجد دولة مثل كوريا تسجل المباراة التى خاضها فريقها لكى تذيعها لاحقا تعويضا للشعب الكورى عن مشاهدتها فى حينها، ونجد الشركة العربية التى تجارى احتكار الفيفا وتشترى منها الامتياز الحصرى لإذاعة المباريات للمشاهدين العرب، تبيع الرخصة الفردية لرؤية المباريات فى الأردن مثلا بمائة دولار، أى بما يقارب متوسط الدخل القومى لشهر المباريات كاملا، وبما يفوق دخل الأسر الأردنية الفقيرة لعدة أشهر.

ويبقى الفساد الجمعى المؤسسى فى «الفيفا» بمنأى عن التحدى، على الرغم من الشدة فى محاسبة الفساد الفردى الذى طاول فى الماضى بعض مسئولى «الفيفا» مصداقا لقول الشاعر: «قتل امرئ فى غابة جريمة لا تغفر، وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر».

طاهر حمدي كنعان  مفكر عربي، نائب رئيس وزراء الأردن الأسبق.
التعليقات