الأمم المتحدة والاتحاد من أجل السلام(2) - طاهر حمدي كنعان - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 12:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأمم المتحدة والاتحاد من أجل السلام(2)

نشر فى : الأحد 12 يوليه 2009 - 9:21 م | آخر تحديث : الأحد 12 يوليه 2009 - 9:21 م
يسجل التاسع من هذا الشهر (يوليو 2009) انقضاء خمس سنوات على إفتاء محكمة العدل الدولية، المرجع الأعلى فى العالم لأحكام القانون الدولى، بموقف هذا القانون من «الأفعال الإسرائيلية فى القدس الشرقية المحتلة وسائر الأراضى الفلسطينية المحتلة الأخرى»، وآخرها إنشاء جدار الفصل العنصرى مغتصبا المساحات الشاسعة من هذه الأراضى. وقد أتت هذه الفتوى استجابة لطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الطارئة المنعقدة إعمالا للقرار رقم377 المعروف بقرار «الاتحاد من أجل السلام»، والعائد أصلا إلى مبادرة الولايات المتحدة ذاتها بأن أى موضوع يهدد السلم العالمى ويعجز مجلس الأمن عن تناوله بسبب فيتو دولة كبرى، يحال إلى «جلسة طارئة» تعقدها الجمعية العامة للبت فيه، ويحمل قرارها فيه القوة ذاتها كما لو كان قرارا من مجلس الأمن.

وبقوة مثل هذا القرار خاضت الولايات المتحدة الحرب الكورية، وبمثله أجبرت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على الانسحاب الكامل إثر عدوان السويس فى 1956. وكانت صحة الرجوع إلى377 فى الموضوع الفلسطينى أول ما نظرت فيه المحكمة الدولية، فارتأت أن قرار مجلس الأمن بموضوع «خارطة الطريق» لم يعالج موضوع الجدار، وأن «بحث مجلس الأمن للوضع فى الأراضى الفلسطينية المحتلة يعرقله» التصويت السلبى من قبل عضو دائم بعينه من أعضاء المجلس (الولايات المتحدة الأمريكية) الأمر الذى عطل فاعلية مجلس الأمن فى أحوال تجلى فيها بوضوح التهديد للسلم والأمن الدوليين». وعليه فإن تولى الجمعية العامة النظر فيه متسق تماما مع مقتضيات «الاتحاد من أجل السلام».

ولقد بذل الفلسطينيون والعرب موارد وطاقات جبارة لتجاوز الفيتو الأمريكى فى مجلس الأمن وحمل الأمم المتحدة على عقد جلسة «الاتحاد من أجل السلام» واستصدار حكم القانون الدولى بخصوص الاحتلال الإسرائيلى وممارساته، ما وصفه الأمير زيد بن رعد، رئيس الفريق الأردنى حينئذ، «بأنه النصر القانونى على هزيمة1967». لكن المعيب والمغضب انحدار الفلسطينيين والعرب نحو دفن ذلك النصر فى حضيض الإهمال الإجرامى والتعامل معه وكأنه لم يكن، بل إن بعضهم شارك فى التزوير الدعائى الصهيونى الذى يبخس قيمة الرأى القانونى لأعلى مرجعية قانونية دولية بوصفه «رأيا استشاريا غير ملزم». والصحيح هو أنه باستثناء «الأحكام»التى تصدرها المحكمة فى النزاعات التى تحيلها عليها أطراف متخاصمة، فإن كل ما تنطق به المحكمة هو «الرأى القانونى»، بما فى ذلك جوابها عن سؤال الجمعية العامة عن حكم القانون الدولى بخصوص الجدار وغيره من ممارسات الاحتلال. وقد تكرست الطبيعة الملزمة لذلك الرأى القانونى حين تبنته الجمعية العامة بأغلبية ساحقة بقرارها ذى الصلة «بالاتحاد من أجل السلام» المعادل لقرار من مجلس الأمن.

تناولت المحكمة كامل أبعاد انتهاك إسرائيل للقانون الدولى والذى يشكل بناء «الجدار» حلقة واحدة منه. بذلك تشكل فتواها أخطر وثيقة عن القضية الفلسطينية منذ وعد بلفور كونها تحيى أساسيات الحقوق الوطنية للفلسطينيين ضمن مرافعة تجعلها المرجعية النهائية لشروط السلام بدلا من المرجعيات الفاشلة ابتداء بـ242 وعبر أوسلو وانتهاء بخارطة الطريق!

راجعت المحكمة أساسيات الحقوق الفلسطينية منذ انتدبت عصبة الأمم بريطانيا على فلسطين بميثاق ينص على أن «شعب فلسطين هو من الأقوام التى وصلت درجة من التقدم يمكن معها الاعتراف مؤقتا بوجودها كأمم مستقلة رهنا بالمساعدة من قبل الدولة المنتدبة.. حتى يحين الوقت الذى تصبح فيه قادرة على النهوض وحدها. » وتذكّر المحكمة بأن ذلك الانتداب يقوم على مبدأين:1ــ عدم ضم الإقليم إلى الدولة المنتدبة، 2ــ إن مصالح الشعب تحت الانتداب هى أمانة مقدسة فى عنق المدنية.

استعرضت المحكمة مراحل القضية الفلسطينية منذ الانتداب وقيام إسرائيل وصولا إلى حرب1967، والاحتلال الإسرائيلى الذى مارس شتى الانتهاكات لمسئوليات القوة المحتلة ومنها بناء المستوطنات وضم القدس، ما استدعى قرارات مجلس الأمن بأن «جميع التدابير والإجراءات التشريعية والإدارية التى اتخذتها إسرائيل.. التى غيرت أو تهدف إلى تغيير طابع ووضع مدينة القدس المقدسة.. هى لاغية وباطلة.. بما فيها القانون الذى يجعل القدس عاصمتها الكاملة والموحدة».

ودحضت المحكمة الدعوى الإسرائيلية الفاجرة بأن الأراضى الفلسطينية التى احتلت عام1967 هى مجرد «أراض متنازع عليها!» قاطعة بأن قواعد القانون الدولى المستقرة منذ اتفاقية لاهاى الرابعة «تعتبر الأراضى محتلة عندما توضع بالفعل تحت سلطة الجيش المعادى وتبسط فيها هذه السلطة. وعليه فإن الأراضى الفلسطينية والعربية التى احتلت عام 1967 هى أراض خاضعة لمسئوليات السلطة القائمة بالاحتلال، وليس لما أحدثته فيها هذه السلطة من مصادرة للأراضى والممتلكات، وبناء المستوطنات وضم للقدس وأشغال الجدار أى أثر يغير هذه الحالة. وهنا تفتى المحكمة بضرورة اعتماد مبدأين من صميم القانون الدولى: 1ــ لا قانونية أى اكتساب للأراضى ناشئ من التهديد بالقوة أو استعمالها. 2ــ مبدأ تقرير المصير للشعوب القاضى بأن «كل دولة عليها واجب الامتناع عن أى إجراء قسرى يحرم الشعوب.. من الحق فى تقرير المصير». كما تدحض المحكمة الدعوى الإسرائيلية بأن اتفاقية جنيف الخاصة بمسئوليات سلطة الاحتلال تجاه الأراضى والشعب الخاضعة لها لا تنطبق على الأراضى الفلسطينية المحتلة لافتة إلى أن الدول الأطراف فى اتفاقية جنيف الرابعة أكدت سريان هذه الاتفاقية على الأراضى الفلسطينية المحتلة «بما فيها القدس الشرقية وحولها»، كما أن مجلس الأمن فى أكثر من قرار دعا إسرائيل إلى التقيد بدقة بأحكام اتفاقيات جنيف والقانون الدولى الذى يحكم الاحتلال العسكرى.

كما لفتت المحكمة إلى «أن اتفاقية جنيف الرابعة لا تجيز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءا من سكانها المدنيين إلى الأراضى التى تحتلها. وتحظر أى تدابير تتخذها السلطة المحتلة لتنظيم وتشجيع نقل أجزاء من سكانها إلى الأراضى المحتلة»، كما أكد مجلس الأمن تكرارا على أن ممارسة الاستيطان «لا تستند إلى أى أساس قانونى» ودعا إسرائيل إلى إلغاء تدابيرها السابقة والامتناع عن اتخاذ أى إجراءات تؤدى إلى تغيير الوضع القانونى والطبيعة الجغرافية وتؤثر بصورة مادية على التكوين الديموجرافى للأراضى المحتلة.. بما فيها القدس الشرقية وحولها وألا تقوم بنقل سكانها المدنيين إلى الأراضى العربية المحتلة [القرار446لعام1979].

وحين تناقش المحكمة قانونية إنشاء الجدار تفند بالتفصيل تبريرات إسرائيل لإقامته، وتتجلى الصدقية الرائعة للمحكمة حين تتناول الحجة الإسرائيلية التبريرية بأن تشييد الجدار يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة ومع حقها الأصيل فى الدفاع عن النفس. ومع إقرار المحكمة أن الميثاق يسلم بالحق الطبيعى فى الدفاع عن النفس فى حالة شن دولة اعتداء مسلحا على دولة أخرى، إلا أنها تستدرك «بأن إسرائيل لا تدعى أن الاعتداءات عليها يمكن أن تنسب لدولة أجنبية... (فالحال هى)»أن إسرائيل تمارس السيطرة فى الأرض الفلسطينية المحتلة وأن التهديد الذى تعتبره هى نفسها مبررا لتشييد الجدار إنما ينبع من داخل تلك الأرض وليس خارجها.. ومن ثم «لا يمكن لإسرائيل بأى حال الادعاء بأنها تمارس الحق فى الدفاع عن النفس». ألا ينطبق هذا الحكم القانونى القاطع على الجرائم التى ترتكبها إسرائيل فى غزة وغيرها بدعوى الدفاع عن النفس؟!

وبخصوص «الجدار» تخلص المحكمة إلى «أن جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بالوضع غير القانونى الناتج عن تشييد جدار فى الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وحولها. وجميع الدول ملزمة أيضا بعدم تقديم العون أو المساعدة فى الإبقاء على الوضع الناتج عن هذا. ويتعين أيضا على جميع الدول مع احترامها لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى، أن تعمل على إزالة أى عائق ناتج عن إنشاء الجدار يحول دون ممارسة الشعب الفلسطينى لحقه فى تقرير المصير.. وعلى جميع الدول الأطراف فى اتفاقية جنيف أن تلتزم بأحكامها القاضية بحماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب، وبأن تكفل امتثال الأطراف الأخرى (إسرائيل) للقانون الإنسانى الدولى على النحو الوارد فى تلك الاتفاقية».

أخيرا، تتجاوز المحكمة موضوع «الالتزامات التى أخلّت بها إسرائيل» لتتناول الالتزامات التى تهم جميع الدول، وأولها الجزم بأن «حق الشعوب فى تقرير المصير بصيغته المنبثقة عن ميثاق الأمم المتحدة ومن ممارستها هو حق لجميع الناس.. وعلى كل دولة واجب العمل.. على تحقيق مبدأ تساوى الشعوب فى حقوقها وحقها فى تقرير مصيرها بنفسها، وتقديم المساعدة إلى الأمم المتحدة فى الاضطلاع بالمسئوليات التى ألقاها الميثاق على عاتقها فيما يتعلق بتطبيق هذا المبدأ»...

ليس من المقبول أن يبقى الفلسطينيون أسرى لدوامة المفاوضات العبثية على «خارطة الطريق» فى الوقت الذى تبين المحكمة الدولية أن خارطة الطريق هذه تفشل فى تناول الممارسات الإسرائيلية التى تخرق فعلا القانون الدولى وتهدد السلام. وبدلا من ترداد لازمة «حل الدولتين» والانشغال بـ«تسويق المبادرة العربية» ألا يتعين تغيير قواعد اللعبة والتمسك بقواعد القانون الدولى التى أفتت المحكمة الدولية باعتمادها فى كل ما يتعلق باحتلال إسرائيل للأراضى الفلسطينية والعربية؟ ألا تستحق وثيقة الفتوى القانونية الدولية أن تصبح «المرجعية الأم» للشرعية الدولية بخصوص مستقبل مفاوضات السلام، وأن يكون قبول أحكامها الشرط المسبق لأى مبادرات عربية مقبلة؟ ألا ينبغى منذ الآن تطوير إستراتيجية تحيى المقاطعة العربية والعزل الدولى لإسرائيل باعتبارها دولة عنصرية متمردة على القانون الدولى، على غرار العزل الذى مورس ضد الحكومة العنصرية فى جنوب أفريقيا؟
طاهر حمدي كنعان  مفكر عربي، نائب رئيس وزراء الأردن الأسبق.
التعليقات