أصداء المحاكمة - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 9:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أصداء المحاكمة

نشر فى : الخميس 11 أغسطس 2011 - 9:12 ص | آخر تحديث : الخميس 11 أغسطس 2011 - 9:12 ص

 عندما أوشك الرئيس السابق أن يدخل قفص الاتهام حبست أنفاسى خشية أن يظهر أمام مئات الملايين الذين تابعوا المحاكمة رجلا أشيب الشعر باهت الملامح هزيل البنيان بما يثير تعاطفا إنسانيا واسعا معه، لكننى فوجئت بأن الذى ظهر هو مبارك الذى يعرفه الجميع. لا شىء تغير فيه عن آخر مرة ظهر فيها إبان الثورة، بل لعله لم يكن يركز أحيانا قبل الثورة على صرامة ملامحه فيبدو رجلا مسنا أكثر بكثير من صورته فى أول أيام محاكمته. حسدت الرجل على «برود أعصابه» وكأنه معتاد على هذه المواقف. تذكرت أننى لم أره غاضبا طيلة حكمه إلا مرة واحدة يوم حادث الأقصر وهو يقول بنبرات ساخطة: «ده تهريج». تذكرت أيضا كما افتقدت هذا الغضب فى أزمات خطيرة كثيرة تعرضت لها مصر، وبصفة خاصة فيما يتعلق بتماسك نسيجها الاجتماعى وعلاقاتها الخارجية.

●●●

عادت بى الذاكرة ثلاثين عاما حين تولى مبارك الحكم بعد اغتيال السادات. لم أكن أتفق مع السادات فى أى شىء، ولم أعد أذكر له سوى اتخاذه قرار حرب أكتوبر التى أعادت لمصر وقواتها المسلحة كرامة أهدرت بغير حق، وكباحث كنت أجمع المادة العلمية عن سياسات السادات. أغلقت أرشيفه وبدأت أرشيفا جديدا كتبت على غلافه «عهد مبارك»، وتفاءلت خيرا. بدأ مبارك حكمه على نحو أزال الاحتقان داخل مصر، وعمل على تصحيح علاقاتها الخارجية. أفرج عن المعتقلين الذين كانوا فى حقيقة الأمر صورة مصغرة من مصر، واستقبلهم فى الرئاسة، وعاملهم باحترام لافت، وعمل على تصحيح الخلل الجسيم فى شبكة علاقات مصر الخارجية. أذكر حين ذاك أننى نشرت دراسة بعد توليه الحكم بشهور قلائل عنوانها «الاستمرار والتغير فى السياسة الخارجية للرئيس مبارك». كنت متفائلا بتطوير جوانب التغير، لكننى لم أجد بعد ذلك إلا الجمود ثم التراجع داخليا وخارجيا وصولا إلى زواج السلطة والثروة ومشروع التوريث وفقدان دور مصر العربى والأفريقى والتحول إلى «كنز إستراتيجى» للخصوم.

●●●

التقيت مبارك طيلة حكمه فى إطار ضيق نسبيا مرتين. كانت الأولى فى مطلع تسعينيات القرن الماضى حين زار كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والتقى نفرا من أساتذتها. كان الرجل يبدو متواضعا. سلم على الجميع فى بداية اللقاء ونهايته، واصطحب معه آنذاك رئيس وزرائه عاطف صدقى ووزير خارجيته الفعلى بطرس غالى. تكلم بهدوء وبلغة «غير سوقية» كتلك التى سمعناها منه لاحقا، وأجاب عن بعض الأسئلة وأحال الباقى إلى معاونيه. انتقد الدكتور عزالدين فودة موقف مبارك من العراق وإيران، وفى نهاية اللقاء حينما أخذ يسلم على الحاضرين مودعا استوقفه دكتور فودة وكرر انتقاده، وأخذ مبارك يعيد دفاعه عن سياسته، وفى النهاية وجدته يقول للدكتور فودة: «عايز الحق أنا لا أستريح لهؤلاء الناس» (أى حكام العراق)، فاحتضنه الأخير وصافحه بحرارة. وعلى الرغم من أننى قدرت فى مبارك حواره الديمقراطى فإننى عجبت لمثل هذا التصريح الذى يمكن إن تسرب أن يسبب له مشاكل عديدة.

كان لقائى الثانى به فى دار الرئاسة فى 1997 ضمن مجموعة تعد على أصابع اليد الواحدة، وقدرت أن الرجل يريد أن يستمع لآراء الآخرين فى تطورات الصراع العربى ــ الإسرائيلى. بدأ مبارك اللقاء بالقول بأنه جمعنا لأننا «نؤثر فى الرأى العام»، ولذلك فهو يريد أن «يضعنا فى الصورة»، وبالفعل كان اللقاء كله «اتجاها واحدا». لاحظت أن الصورة تراجعت عما كانت عليه فى لقاء كلية الاقتصاد عام1991 ورصدت بعد ذلك مزيدا من التراجع إلى أن وصلنا إلى الحكم المطلق للسلطة والثروة ومشروع التوريث ووضع «الكنز الاستراتيجى» للخصوم.

●●●

عندما دخل مبارك قفص الاتهام ألح على سؤال طالما ألح فى حالات أخرى لصنّاع قرار مثله أو فى مستوى أدنى بكثير: ما الذى يحدث للحاكم ويحيله من إنسان طبيعى إلى حاكم مطلق فاسد؟ لا شك أولا أنها السلطة المطلقة طويلة الأمد، وقد لاحظت حالات أخرى عديدة مطابقة لحالته، ويتكفل تخلف البنية المؤسسية وتشوه الثقافة السياسية وضعف الذات البشرية أمام المغريات المادية بالباقى. وأيقنت عندما أنكر مبارك كل الاتهامات الموجهة إليه أن الأمل فى أن يأتى الإصلاح بيد الحكام عبث، وإنما يحتاج الأمر قوة هائلة للتغيير من القاعدة الشعبية، وهذه هى عبقرية ما فعله الشعب المصرى فى ثورته التاريخية.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية