تسعير مياه الشرب.. على أي أساس؟ - محمد بصل - بوابة الشروق
الخميس 11 سبتمبر 2025 11:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

تسعير مياه الشرب.. على أي أساس؟

نشر فى : الخميس 11 سبتمبر 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : الخميس 11 سبتمبر 2025 - 7:50 م

منذ أيام صدر قانون تنظيم مرفق مياه الشرب والصرف الصحي الجديد رقم 172 لسنة 2025 والذي تزامنت مناقشته في مجلس النواب مع عدة تشريعات أخرى أثارت قلق الرأي العام مثل قانون الإيجار القديم. فتراجع الاهتمام به وانصب التركيز فقط على المستجد الأساسي وهو إشراك القطاع الخاص في إنشاء وإدارة المرفق سواء منفردًا أو بالشراكة مع الجهات الحكومية، الأمر الذي أثار جدلًا بين المؤيدين لتخفيف الأعباء المالية والتنفيذية عن الدولة، والمعارضين المتخوفين من انعكاس هذا الاتجاه بالسلب على مصالح المواطنين وعدالة الإنتاج والتوزيع والتسعير.

ونقطة تسعير الخدمة تحديدًا أثارت استغرابي عندما اطلعت على القانون بعد صدوره. حيث تنص المادة 57 على أن "يقوم الجهاز (جهاز تنظيم مياه الشرب والصرف الصحي وحماية المستهلك) بتحديد القواعد والإجراءات التي يتم على أساسها حساب التعريفة في إطار من الشفافية، على أن يتم إقرارها من الوزير المختص ويتولى عرضها على مجلس الوزراء لاعتمادها، ويتم إعلانها عن طريق الجهاز".

النص في ظاهره إيجابي، فكلنا نرغب في معرفة قواعد للزيادات السعرية المطرّدة. لكن لا أدري كيف وافقت السلطة التشريعية ممثلة في مجلس النواب على هذا النص الذي ينقل اختصاصًا أساسيًا هو وضع قواعد وإجراءات حساب التعريفة، أي تسعيرة الخدمة، إلى السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة، وبصورة تسمح بقدر كبير من المرونة في وضع معايير التسعير. حيث يقترحها الجهاز أولًا، ثم يقرها وزير الإسكان، ثم يعتمدها مجلس الوزراء، ثم يعلنها الجهاز ذاته.

وإذا كان منطقيًا أن تحديد التعريفة وتعديلها بشكل دوري أو وفقًا للتغيرات الاقتصادية يتطلب منح الحكومة هامشًا من المرونة يمكنها من سرعة التصرف دون الرجوع إلى البرلمان، فالأكثر منطقية والتزامًا بأحكام الدستور ومراعاة للصالح العام أن يضع البرلمان في القانون القواعد والإجراءات المفروضة لإحكام عملية التسعير والمعايير اللازمة والكافية للتوصل إلى تعريفة عادلة وواقعية، على أسس فنية ومالية سليمة وبحدود قصوى عند التعديل.

كان يجب أن ينص القانون على تلك البنود لتصبح بمثابة القاعدة التي تتحرك الحكومة في فلكِها عند التسعير والتعديل، فلا تتجاوزها ولا تحيد عنها. فيتمتع المواطن (المستفيد النهائي متلقي الخدمة) وكذلك المستثمر (منشئ ومقدم الخدمة) بحماية تشريعية من ارتفاع الأسعار المفاجئ، أو استحداث معايير تعسفية قد تكون وليدة تغيرات لحظية أو دخول مستثمرين جدد إلى السوق، وغيرها من الأخطار المتوقعة الخارجة تمامًا عن الوضع المألوف لمرفق المياه والصرف.

إن مسألة التسعير وثيقة الصلة بـ"العدالة الاجتماعية" التي شدد الدستور الحالي على إعلائها في تسعة مواضع بالديباجة والمواد، فلا يمكن الادعاء بتحقيق القانون الجديد للعدالة الاجتماعية ونحن لا نعرف على أي أساس سوف توضع التعريفة.

ولا ينال من ذلك أن المادة 57 من القانون تلزم الجهاز بتحديد القواعد والإجراءات "في إطار من الشفافية" حيث لم توضح المادة وسائل تحقيق الشفافية المنشودة، هل بحوار مجتمعي موسع أم نقاش نخبوي أم بعرض المقترح في وسائل الإعلام قبل إحالته إلى وزير الإسكان أم بمجرد النشر؟!

واللافت أن الفقرة الثانية من المادة تعكس التفات واضعي القانون إلى مبدأ "العدالة الاجتماعية" فنجدها تشير صراحة إلى "مراعاة السياسات التي تضعها الدولة لمنظومة الدعم والحماية الاجتماعية" ثم تجيز لمجلس الوزراء تقديم دعم عيني لبعض الفئات بتخصيص تعريفة أقل من التعريفة المقترحة من الجهاز. بل وتلزم هذه الفقرة وزير الإسكان بتقديم دراسة تتضمن الفرق بين التعريفة المقترحة وفقا للاسس الاقتصادية والتعريفة المزمع اعتمادها من مجلس الوزراء.

هنا يتجلى القصور التشريعي في النص بعدم تحديد المعايير الفنية والأسس الاقتصادية. فقد كان ضروريًا أن توضع خلال المناقشات البرلمانية بعد دراسات مستفيضة وجلسات استماع للخبراء والأجهزة المعنية وممثلي المستهلكين من مختلف مناطق الجمهورية لمراعاة جميع الأبعاد الاجتماعية والمالية الضرورية للموازنة بين قواعد التسعير ومستوى الخدمة، وحماية جميع المواطنين -وبالأخص الأكثر فقرا والمستحقين للدعم- من التقلبات السعرية مستقبلًأ.

إننا أمام شبهة تسلّب من الاختصاص التشريعي، على نحو مقارب من الحالات التي رصدتها المحكمة الدستورية العليا في بعض أحكامها عن "التسلب". فتنظيم قواعد التسعير أساسٌ جوهري لهذا التشريع المنظم لحق أساسي من حقوق المواطن، هو الماء النظيف والغذاء الصحي والمسكن الملائم والآمن والصحي (وفق المادتين 78 و79 من الدستور) فضلًا عن الإلزام الدستوري المتكرر بإصدار تشريعات تحقق العدالة الاجتماعية، واعتبارها هدفًأ أساسيًا للنظام الاقتصادي (وفق المادة 27 من الدستور).

لا يجوز للسلطة التشريعية أن تتسلب من اختصاصها الأصيل في وضع قواعد العدالة الاجتماعية وحماية مصالح المواطن من ارتفاع أسعار الخدمات المرفقية الأساسية، وتحيل الأمر برمّته إلى السلطة التنفيذية. والفرصة سانحة أمام مجلس النواب القادم لتدارك الأمر وعلاج هذه الشبهة في أقرب وقت، فالقانون لن يدخل حيز التطبيق عمليًا إلّا في مارس 2026 ثم ستصدر لائحته التنفيذية خلال ستة أشهر تالية.

محمد بصل مدير تحرير الشروق - كاتب صحفي، وباحث قانوني
التعليقات