لا أحد يجادل اليوم فى التأثير الكبير الذى تصنعه وسائل التواصل الاجتماعى؛ فبفضلها عاد ترامب لمقعد رئاسة الولايات المتحدة وبفضلها أيضًا نجح عمدة نيويورك المعادى له.
ورغم كل التحفظات التى يبديها البعض حول وسائل التواصل فإن المؤثرين فيها صاروا هم نجوم اللحظة الراهنة الذين يصنعون جدول أعمالنا -يوميًا- من خلال «الترند».
قبل عدة سنوات انتبه عدد من علماء الاجتماع والاتصال إلى أن أهم المتغيرات التى رافقت ظهور الوسائط التكنولوجية دخول فئات جديدة إلى عوالم الاستقبال الرقمى وهذه الفئات كانت مهمشة فى السابق لأسباب اقتصادية واجتماعية محضة.
ساهم هذا التهميش فى حصر دوائر الثقافة والمعرفة فى فئات معينة وأفضى إلى ظهور النخب الثقافية وعلى ضفافها هوامش عريضة من الأميين الذين لا يهتمون بما يجرى حولهم.
يبدو أننا نشهد تحقق النبوءة التى توقعها الناقد السعودى عبدالله الغذامى فى كتابه المهم (النقد الثقافى) حين لفت إلى أن الميديا الجديدة بمختلف أشكالها كسرت صور التمييز الطبقى بين الفئات بعد أن وسعت دوائر الاستقبال لتشمل جميع البشر، وأدى هذا إلى زعزعة مفهوم النخبة بعد أن صار الجميع سواسية فى التعرف على العالم واكتساب معارف جديدة وإبداء الرأى فى كل القضايا، ولم يعد للمثقف دورًا أو امتيازًا فهو يشاهد ويتفاعل مثل الآخرين.
هذا التغيير أطلق إمكانيات التأويل الحر بمعزل عن النخبة التى سقطت كما أشار الغذامى وسقطت معها الوصاية التقليدية وتلاشت مكانتها الرمزية التى كانت تملكها فى السابق ربما لأن الرمزية ذاتها من أهم معالم زمن الثقافة الكتابية التى تلاشت فى عصر ميديا الوسائط السمعية والبصرية وحلت محلها «النجومية» التى تقتصر اليوم على من يسمونهم (الأنفلونسرز) الذين يقودون خيارات التصويت السياسى ويتحكمون فى خيارات قراء الكتب وزوار معارضها وينافسون نقاد الأدب والمفكرين والمبدعين فى الجلوس على المنصات ومخاطبة الجمهور استنادا على «قاعدة التأثير» وليس استنادًا إلى معارف أو خبرات.
يبدو أن عالم الاجتماع البارز الدكتور سعيد المصرى الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة انتبه إلى حالة السيولة القائمة وبادر بإطلاق مجلة جديدة بعنوان «آفاق» وعرفها بـ«المجلة العربية للدراسات الثقافية»، وهى مجلة علمية محكمة نصف سنوية تصدر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء وهذه ميزة ربما تضمن استمرارها وصدورها بانتظام بعد تعثر معظم مجلاتنا الفكرية وتوقف بعضها عن الصدور مثل مجلة «فصول» التى نجحت -سابقًا- فى إثارة الاهتمام بما تطرحه الدراسات الثقافية من نظريات تساهم فى التعامل مع الواقع إذ تدرس كل أنماط الإنتاج الثقافى فى علاقته بالممارسات اليومية.
لا ترتكز الدراسات الثقافية على منهج محدد لذلك تعتبر نفسها متداخلة الاختصاصات، كما لم يعد معها الإنتاج الثقافى يدرك كتعبير محلى محض ذاتى ولكن كإنتاج يندرج فى مجموع قوى اقتصادية وسياسية واجتماعية وسياسية، تتحدد داخلها علاقات الهيمنة.
بفضل النقد الثقافى يتحول النص إلى وثيقة تعكس القيم الأيديولوجية والسياسة السائدة. والأمل كل الأمل أن تتاح المجلة للجمهور فى منافذ توزيعية متنوعة لكى تحقق طموحها ورسالتها فى إثراء الحياة الثقافية وهذا الطموح له ما يؤيده فى مواد العدد الأول من المجلة التى جمعت حولها أسماء مهمة وفاعلة منها: المفكر أوليفيه روا (فرنسا)، ثريا أسعدى (المغرب)، جيهان زكى (مصر)، سعد البازعى (السعودية)، فدوى الجندى (مصر)، لويس بيلين (فرنسا)، محمد بسيونى (مصر)، محمد مشبال (المغرب)، ممدوح النابى (مصر)، منير السعدانى (تونس)، المهدى مستقيم (المغرب)، نهى ميلور (مصر)، هالة الحفناوى (مصر)، وليد الخشاب (مصر).
تناول هؤلاء عدة قضايا مهمة يقاومون من خلالها فكرة تهميش المثقف أو صور تسطيح الظواهر والتعامل معها بخفة واستخفاف.
اختارت المجلة التعامل مع قضايا على صلة وثيقة بالممارسات اليومية منها: بلاغة الفضح، إعادة إنتاج الحضور الدينى فى أشكال رقمية جديدة، والبعد الحضارى فى تعزيز الهوية الوطنية، وعاطفة التنوير، والإغواء فى الإعلانات الترويجية وتأثيره على الرأى العام، والتاريخ الاجتماعى والسياسى للأغنية العربية، وإشكاليات العلاقة بين المؤلف والنص البشرى والنص الآلى فى عصر الذكاء الاصطناعى.