«يعتبر النضال ضد نظام الفصل العنصرى أهم حملة مناصرة لحقوق الإنسان فى العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويعد انتصاره تأكيدا على وحدة إنسانيتنا المشتركة.. وفى هذا الزمن المضطرب لابد ألا يخبو حماس هذه الحملة. ولذلك فإن جنوب أفريقيا لن تكون غير مبالية بالحقوق الإنسانية للآخرين. ستكون حقوق الإنسان هى المبدأ الذى يرشد سياستنا الخارجية». هكذا حدد الرئيس الراحل نيلسون مانديلا ملامح السياسة الخارجية لبلاده قبل عام من صوله إلى السلطة فى مقالة نشرها فى المجلة الأمريكية الشهيرة «الشئون الدولية». وفى تحديده لهذه الملامح وضع مانديلا على عاتقه وعلى عاتق بلاده مسئولية مناصرة حقوق الإنسان، بغض النظر عن جنسه أو لونه أوعرقه أو دينه، داخل القارة الأفريقية وخارجها.
•••
فى غضون سنوات قليلة حول مانديلا، بشخصيته الجذابة ومكانته الدولية، جنوب أفريقيا من دولة تعانى العزلة تحت وطأة العقوبات الدولية، إلى شريك للقوى العالمية، وقائد على الساحة الأفريقية. ومع إدراكه أن سياسته الخارجية لابد أن تحقق مصالح بلاده، تمسك مانديلا بأن تدافع هذه السياسة أيضا عن القيم التى ناضلت جنوب أفريقيا من أجلها لعقود طويلة، وبذلك أسس لمتلازمة المصالح والقيم كحاكم لعلاقات بلاده الخارجية.
ولكن ذلك وضع خلفاءه، بل ووضع مانديلا نفسه، فى مواجهة أزمات عدة. لو كان مانديلا فى مقعد الرئاسة لإنحاز إلى حقوق الشعوب وليس لإملاءات القادة. هكذا كان يصرح لى العديد من الأصدقاء والباحثين فى جنوب أفريقيا تعليقا على بعض المواقف التى اتخذها خلفه، الرئيس ثابو مبيكى، تجاه قضايا حقوق الإنسان فى أفريقيا. كان مانديلا قد وقف وحيدا ضد النظام العسكرى بقيادة سانى أباتشا فى نيجيريا، والذى أعدم عددا من الناشطين واعتقل ونفى آخرين خلال عامى 1994ــ 1995. فضلت الولايات المتحدة وبريطانيا عدم اتخاذ مواقف حاسمة حماية لمصالحها الاقتصادية، خاصة البترولية، فى نيجيريا، واكتفت الأخيرة بتعليق عضوية نيجيريا فى الكومنولث. اتجهت قوى أخرى، ومن بينها الصين وفرنسا إلى دعم علاقاتها الاقتصادية بنيجيريا غير مبالية بانتهاكات نظامها العسكرى. وكعادتها فضلت الدول الأفريقية أن تساند النظام القمعى فى نيجيريا متحججة بمبادئ التضامن الأفريقى. أما جنوب أفريقيا، فقد قررت بعد فشل مساعيها للحوار مع أباتشا، أن تقود حملة للدعوة لفرض عقوبات على نيجيريا. وقد عرض ذلك مانديلا لهجوم عنيف، ووصفه أباتشا بأنه رئيس أسود فى دولة لا زال يسيطر عليها البيض، ويبدو أن ذلك كان الانطباع السائد لدى بعض القادة الأفارقة الذين انتقدوا الموقف الجنوب أفريقى.
•••
لم ينجح مانديلا فى التأثير على مواقف الدول الأخرى بصفة عامة، والدول الأفريقية بصفة خاصة، فى هذه القضية أو غيرها من القضايا المرتبطة بالدفاع عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد انتقد كثيرون مثاليته وعدم اكتراثه بالصدام مع القادة الأفارقة نتيجة لمناصرته لحقوق شعوبهم. وقد اضطر نظامه إلى اتخاذ مواقف أقل حزما فى قضايا حقوقية أخرى. ولكنه أعطى درسا أن سياسة الدول الخارجية لا تقوم فقط على المصالح وإنما ايضا على القيم النابعة من تاريخ الشعوب والأوطان. ولن ينتهى هذا الميراث بوفاته، وإنما سيظل الكثيرون فى جنوب أفريقيا وخارجها يتذكرونه مع كل أزمة وصراع تواجهه القارة الافريقية والعالم متسائلين: ماذا كان سيفعل مانديلا لو كان بيننا؟