منذ بضعة شهور تفاءلنا بمجىء الحراكات الجماهيرية الجامعة، المتخطّية للولاءات المذهبية والقبلية والعائلية المتجذرة فى الكثير من بلاد العرب، التى انطلقت فى شوارع عواصم ومدن السودان والجزائر ولبنان والعراق.
ومع أن تلك الحراكات كانت تتمّة لموجة ما عرف بالربيع العربى، وكانت ترفع نفس الشعارات المطلبية، إلا أنها تميّزت بخاصيّتين: السلمية المبهرة من جهة، والإصرار على وجود قوة سياسية جديدة غير ملّوثة بالفساد والتسلُّط، تتخطّى الطبقة الحاكمة السابقة وتهيّئ لفترة حكم انتقالية قادرة على نقل تلك المجتمعات إلى بر الأمان الديمقراطى السياسى والاقتصادى القائم على العدالة والمواطنية المتساوية والقانون الشرعى ونزاهة الحكم.
وبالفعل بدأت رياح التغيير فى المشهد السياسى تهبُّ بصور مختلفة وبدرجات متفاوتة. لكن النجاح السودانى كان هو المثل الذى حمل أملا كبيرا فى حدوث تغييرات جوهرية مستقبلية.
لكن يتبيّن يوما بعد يوم أن قوى الدولة العميقة فى الكثير من بلاد العرب، والتى هى خليط من قوى مالية وعسكرية واستخباراتية وتحالفات مع قوى خارجية، لن تغيب عن المسرح دون خوض معركة حياة أو موت، وأن فى يدها الكثير من الحيل والأساليب لحرف تلك الحراكات السلمية النبيلة عن الطريق الذى اختارته لنفسها فى البداية، ولإدخالها بالتالى فى متاهات غامضة تجعل تلك الحراكات تدور حول نفسها حتى لا تصل إلى تحقيق أهدافها الكبرى التى أشهرتها.
وهكذا نرى أمامنا الآن كيف أقحم موضوع التطبيع مع الكيان الصهيونى، إبّان أحلك أيام النضال العربي ــ الفلسطينى أمام المؤامرة الأمريكية ــ الصهيونية، حتى تعّم الانقسامات والصراعات فيما بين مختلف القوى السياسية المدنية السودانية، وحتى ينشغل الحكم الحالى بموضوع كان يجب تأجيل النظر فيه إلى ما بعد الفترة الانتقالية الحالية وإلى حين وجود سلطة تشريعية شرعية منتخبة بنزاهة وممثلة بصورة حقيقية لمجموع المواطنين.
وبالطبع، فإن الإنسان لا يحتاج إلى جهد كبير ليكتشف ما تُخطط له الأيادى الخارجية، المتناغمة مع بعض الأيادى العربية، اللاّبسة وشاح التآمر الصهيونى على كل أمل فى كل بلاد العرب، لزرع اليأس والتشويه فى كل حراك واعد، كحراك السودان الشقيق.
وهكذا أيضا نرى أمامنا لعبة تسمية رؤساء وزارات مقبولين من جموع الحراكات الجماهيرية التى تجوب شوارع هذا القطر العربى أو ذاك. فبعض قوى الدولة العميقة تظلّ تلعب لعبة الشدّ والتراخى وإرسال البالونات لمعرفة مقدار تصميم الصامدين فى الشوارع.
وتمرّ الأسابيع والشهور دون الوصول إلى تسميات معقولة وحلول مطمئنة، أملا من قوى الدولة العميقة فى أن ينقسم الناس حول هذه التسمية أو تلك ويملُّوا، ثم ينصرفوا إلى بيوتهم.
قوى الدولة العميقة تَعرف جيدا، عن خبرة تاريخية طويلة، بأن نفس الجماهير قصير وصبرهم محدود، خصوصا إذا كانت الغالبية من ذوى الخبرة السياسية المحدودة والتجارب النضالية المتواضعة.
فإذا أضفنا إلى كل ذلك حملات التخويف والتهويل بشأن الأوضاع الاقتصادية المتأثّرة بوجود عدم الاستقرار المجتمعى والأمنى، دون الإفصاح عن الانتهازية الخارجية والفساد الداخلى للاستفادة السريعة القصوى من هكذا أوضاع مجتمعية صعبة، فإننا ندرك مدى الضغوط النفسية التى يواجهها شباب وشابات تلك الحراكات الإصلاحية فى طول وعرض بلاد العرب.
ما المطلوب أمام كل ذلك؟
المطلوب هو أن يسأل كل من يقف مع الجموع المحتشدة نفسه: هل أنا موجود كفرد حرّ مستقل، أم أنى موجود كفرد منتظم متضامن متعاضد مع إخوة مناضلين آخرين فى نقابة، أو حزب سياسى غير ملّوث بسخافات وفساد الحكم، أو جمعية مهنية أو حقوقية أو نسائية أو تجمع طلابي؟
فى رأينا أن الجواب على السؤال الأخير سيحكم مستقبل الحراكات الجماهيرية فى تلك الأقطار وفى غيرها. قوى الدولة العميقة المتفاهمة المتناغمة المتعاضدة، لن تتوقف عن لعب الحيل والتضليل والإنهاك، التى ذكرناها، إلا إذا واجهت قوى مجتمع مدنى منتظمة متفاهمة، مكونة من ملايين الأعضاء المناضلين الواعين وليس الأفراد المتحّمسين القلقين.
شباب وشابات الأمة العربية يجب أن ينتقلوا إلى وضع العمل المدنى المنظّم الفاعل حتى لا تبقى الحراكات العربية أصوات وأناشيد حماس وغضب وتهديد، ما يعطى الدولة العميقة القدرة على فعل ما تفعله، تمهيدا للقضاء على أنبل ما عرفته هذه الأمة فى منعطفها التاريخى الحالى.