لم أستطع وأنا أستهل كتابة هذه السطور أن أقاوم الإشارة إلى أننا ــ نحن المصريين ــ قد عرفنا فى تاريخنا السياسى غير البعيد أزمات مشابهة نجانا الله فى النهاية من آثارها الطارئة، ويكشف عن هذه المشابهة بيتان من الشعر استهل بهما شاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدة طويلة فى وصف تلك الأزمة يقول فيهما:
وقى الأرض شر مقاديره... لطيف السماء ورحمانها
ونجى الكنانة من فتنة... تهددت النيل نيرانها
كما أحب فوق ذلك أن أشير إلى أنه كان فى وسعنا جميعا أن نتجنب كل ما سببته هذه الأزمة من معاناة وقلق وتهديد لوحدة نسيجنا الوطنى لو أن «روح المغالبة والمنافسة والصراع» لم تفسد علينا أمرنا ولم تحرمنا من فرصة معقولة لتجنب وقوع ما وقع، ذلك أن نص المادة 60 من الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 والذى جرى فى ظله تكوين الجمعية التأسيسية الموقوف عملها بحكم محكمة القضاء الإدارى كان يحمل درجة كبيرة من الغموض والنقص، ومع ذلك فإن روح المغالبة حالت دون الانتباه قبل فوات الأوان لتجنب آثارها المدمرة، ومن الضرورى أن أشير فى هذا السياق إلى أنه قد أتيح لى من خلال تواصل فردى وعارض مع عدد من قضاة المحكمة الدستورية العليا إلى أن أكثر من واحد من هؤلاء القضاة أصحاب القدم الراسخة فى تفسير نصوص الدستور والقوانين التى تصدر تنفيذا لها وأنهم كانوا طول الوقت يتوقعون هذه الأزمة ومنهم من نبه إلى ضرورة اتخاذ إجراء عاجل يباشره المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتعديل المادة 60 المشار إليها على النحو الذى يزيل عنها النقص ويرفع عنها الغموض، وقد سمحت لنفسى أن أنقل جوهر هذه الرسالة بل أضفت إلى أن بين يدى نص مشروع لهذا التعديل، وهو نص قدمه لى أحد نواب رئيس المحكمة الدستورية العليا فى جلسة تشاور غير رسمى وبعيدا تماما بطبيعة الحال عن كل اختصاص للمحكمة الدستورية للتدخل فى أمر نزاع لم يكن حين ذاك معروضا عليها.
ولعل الإسراف من جانبى فى الحظر من تجاوز الخطوط المقبولة فى التواصل مع أعضاء محكمة لها فى نظامنا القانونى استقلالها وحيادها المطلق لعل هذا الإسراف فى الحظر أن يكون مسئولا ولو جزئيا من ترك الأمور تصل بنا جميعا إلى مسافة شديدة القرب من وقوع صدام ومواجهة بين «المؤسسات الدستورية» وليس بين بعض الأطياف المختلفة من القوى السياسية التى تحمل مسئولية الانتقال من المرحلة الانتقالية المؤقتة إلى مرحلة الديمقراطية المستقرة بأبعادها المختلفة ويبقى بعد هذا كله الحاجة الماسة والعاجلة لإجابة السؤال المطروح علينا جميعا بعد انجلاء هذه الغمة وبعد مشاركة طرف مهم من أطراف معركة المغالبة السياسية وهو حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين مشاركة تستحق الثناء بغير تردد وهى المشاركة المتمثلة فى إعلان التزام الحزب والجماعة بتنفيذ حكم محكمة القضاء الإدارى والامتناع عن الطعن عليه أمام المحكمة الإدارية العليا.
وهذا السؤال المطروح يتكون من جزءين:
أولهما: تحديد الإجراء البديل الذى يتمثل فى اختيار جمعية تأسيسية جديدة بعد إزالة العوار والنقص اللذين شابا صياغة المادة 60 من الإعلان الدستورى وهما:
● عوار خلو تشكيل الجمعية التأسيسية السابقة من تمثيل معقول وضرورى للخبرات القانونية المتخصصة فى الشأن الدستورى حتى تستطيع بعد تكوينها إعداد مشروع متكامل للدستور هو الذى تجرى مناقشته وعرضه بعد ذلك على الاستفتاء الشعبى.
● تدارك النقص الذى وقع عند تشكل تلك الجمعية والذى غابت بسببه قوى سياسية لا يتصور إقصاؤها أو استبعادها عمدا أو سهوا عن تمثيلها فى تلك الجمعية.
ثانيهما: ألا يؤدى هذا التدارك إلى إطالة غير مقبولة للفترة الانتقالية ذلك أن الإجماع الوطنى منعقد على ضرورة التعديل ــ فى حدود الإمكان بطبيعة الحال ــ لانتقال السلطة المخولة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة والتى أدى بها مهمة مساندة الثورة وتيسير الانتقال إلى الأوضاع الطبيعية التى يتحرك فى ظلها العمل السياسى والدستورى والتى يكتمل بها استكمال البناء الديمقراطى الملتزم للأحداث المعلنة للثورة الوطنية وهى الأهداف التى تحددت يوم 25/1/2011 وهنا أحب أن ألفت النظر إلى أن الميعاد الذى تحدد لانتهاء تلك المرحلة الانتقالية وهو 30/6/2012 وإن كان من الضرورى الحرص على عدم تجاوزه فإنه رغم ذلك كله ليس ميعادا مقدسا وإنما العبرة فى ذلك أن حراسة الثورة وضمانات العودة إلى الأوضاع الطبيعية تتطلب جميعها ألا يمتد هذا الموعد لأى فترة دون ضرورة قصوى تتطلب ذلك الامتداد وإلا كان ذلك الترخص فاتحا فرصا جديدة أمام قوى الثورة المضادة فى جهودها سعيا لإجهاض الثورة واستنساخ صور جديدة من النظام السياسى الذى أسقطته الثورة ولو أننا جميعا عنينا بدراسة التقرير بالغ الأهمية الذى قدمه الخبير الهندى المتخصص فى كل ما يتصل بالجمعيات التأسيسية وهو التقرير الذى جرت مناقشته والحوار حوله فى ندوة نظمها مركز العقد الاجتماعى وقد تفضلت مؤسسة الأهرام ممثلة فى الصديق العزيز الأستاذ/ ضياء رشوان بترجمة عاجلة له وقمت من جانبى بتوزيع تلك الترجمة العربية على الزملاء والزميلات أعضاء المجلس الاستشارى ولكن روح المغالبة التى شغلت جميع التجمعات والأحزاب ظلت لوقت طويل عائقا دون التأمل الهادئ فى الحلول البديلة التى طرحت نفسها للاختيار.
ويبقى من المسئولية الملقاة على عاتق المجلس الأعلى وعلى مجلس الشعب وسائر منظمات المجتمع الرسمى والمدنى وهم يباشرون المهمة الكبيرة التى القيت على عاتقهم فى اختيار اعضاء الجمعية التأسيسية أن يحددوا لأنفسهم ولنا نحن جميع المصريين أمرين يلتقيان فى ضرورتهما وتكاملهما:
الأول: تحديد المواصفات والشروط اللازم توافرها عند مباشرة الأعضاء المنتخبين فى مجلسى الشعب والشورى لمهمة انتخاب الأعضاء المكونين للجمعية التأسيسية مراعين لطبيعة الحال أن يكونوا جميعا من غير أعضاء المجلسين وهو التفسير الذى انتهت إليه محكمة القضاء الإدارى وذلك دفعا لاحتمال وقوع حالة من حالات تعارض المصالح بين ممارسة سلطة مؤسسة (بفتح السين) عند اختيار جمعية تأسيسية من عناصر مهمتها رسم الحدود الفاصلة بين السلطات الثلاث وبصفة خاصة تلك التى تبين الحدود الحاكمة للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ونتصور أن يتم الحرص على توافر الشروط الثلاثة الآتية:
1ــ توافر الانتماء الوطنى غير المشوب بولاءات أخرى تنتقص منه وتحوله إلى ولاء طبقى أو عنصرى أو دينى خالص. وعلى جميع المصريين أن يرتفعوا خلال السياق الزمنى والمجتمعى الذى يتم فيه بناء حياة ديمقراطية مستقرة والذى يتوقف عليه مستقبل الحياة السياسية والاجتماعية بكل عناصرها أن يرتفعوا فوق اعتبارات الانحياز الخاص بكل مظاهره وأن يتذكروا جميعا أن هذه أيام للعطاء الخالص المجرد لشعب مصر كله وأن الولاءات الضيقة الأخرى ينبغى أن تتوارى وأن تغيب عن الاعتبار فهذا وقت عطاء خالص وليس أبدا وقت أخذ طامع ومسعور.
2ــ استيثاق من تمثيل جميع القوى السياسية القائمة عند اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية وبذلك تتحقق إزالة أحد العوارين الذين أصاب الجمعية التأسيسية التى أوقف حكمه محكمة القضاء الادارى استمرارها وأن يراعى كذلك النقص الآخر الذى عاب ذلك التشكيل القديم والذى كادت معه الجمعية التأسيسية أن تخلو من الخبرات القانونية والدستورية التى لا يستغنى عن توافرها بعدد كاف فى جمعية تتصدى لمهمة وطنية معقدة من شروط أدائها توافر الأهلية العلمية والعملية اللازمة لإنجاز هذه المهمة وهنا نكرر مرة أخرى أن أداء هذه المهمة بالكفاءة اللازمة لا تصلح معه الخواطر العابرة السانحة بل إن إدخال هذه الخواطر بغير حساب لابد أن يحمل معه مخاطر الوقوع ولو بحسن نية فى نتائج كارثية قد لا يخطر كثير منها على البال والقاعدة العقلية والمنطقية التى يقررها القرآن الكريم تقضى بضرورة الرجوع إلى أهل الاختصاص فى هذا تقول الآية الكريمة: «فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون».
والثانى: ويبقى التعرض لأهم القضايا التى تتصل بمضمون مشروع الوثيقة الدستورية والتى يتمثل جانبا كبيرا منها فى علاج الثغرات العديدة التى كشفت عنها الممارسة السياسية والدستورية فى ظل دستور 1971 وسوف نعرض لهذا الأمر فى دراسة نرجو أن تكون بين يدى القراء بعد أيام قليلة جنبا إلى جنب مع عديد من المشروعات التى قدمها زملاء أعزاء من أهل الدراية والاختصاص بالشئون الدستورية وهم والحمد لله كثيرون ويبقى أن يستقبل الجميع مشورتهم بصدور واسعة وعقول مفتوحة فإن المشورة الذكية المخلصة تظل محتاجة دائما إلى أن «تعيها أذن واعية».