درب «التعافى» الشاق - سمير العيطة - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

درب «التعافى» الشاق

نشر فى : الأحد 12 يونيو 2022 - 8:05 م | آخر تحديث : الأحد 12 يونيو 2022 - 8:05 م
هذه ليست المرة الأولى التى تعيش فيها أغلب البلدان العربية غير النفطية أزمات اقتصادية ومالية قاسية. إذ كانت قد شهدت الفترة التى تلت انهيار أسعار النفط فى 1985 إلى ما دون أسعار «الفورتين النفطيتين» فى 1973 (حرب أكتوبر) و1979 («الثورة» الإيرانية) تضخما فى الديون العامة وانهيارا فى أسعار الصرف، بل توقفت بعض الدول حينها، كسوريا، عن سداد ديونها الخارجية.
إن أزمات «الفورة النفطية المضادة»، كما سُميت حينها، قد أدت إلى تطورات ضخمة على صعيد سياسات البلدان الداخلية كما على صعيد موازين القوى الإقليمية. كان أهم تلك التطورات غزو العراق المنهَك بسبب صراعه مع إيران... للكويت، ثم حرب العراق الأولى. وبالتزامن مع ذلك، انهار حائط برلين ومعه الاتحاد السوفيتى.
ليست التطورات العالمية وحدها وراء أزمات البلدان العربية الاقتصادية. بل يكمُن السبب الرئيس فى السياسات الاقتصادية والمالية التى انتهجتها هذه البلدان، وفى خلل استفادتها من فرص الفورات الإيجابية لتطوير اقتصاداتها وتحصينها لمواجهة الأزمات، كما فى كيفية إدارتها لآثار الأزمات الخارجية لدرء الانهيار. خاصة وأن وقوع البلاد فى انهيارٍ اقتصادى ومالى يجر إلى تضحيات كُبرى على صعيد المجتمع كما السياسات الخارجية.
• • •
إن لبنان اليوم يعيش انهيارا أبعد من مجرد أزمة. لإنه لم يُحسِن الاستفادة من التدفقات الكبيرة لأموال نُخَب الدول المجاورة ومغتربيه، حتى خلال أزمة 2008 العالمية، والاكتفاء بزيادة الاستيراد والاستهلاك بما لا يُمكِن استدامته. ولم يستفِد أيضا من فرصة اليد العاملة الرخيصة السورية قبل موجة اللجوء السورى الكبيرة فى 2012 وبعدها. وبقى عشرات السنين يؤجِل اعتماد أية سياسات اقتصادية ناجعة عبر آليات نقدية أدت إلى «ابتكاره» دولارات أمريكية غير موجودة فعليا، وصل حجمها عند تفجر أزمته إلى أضعاف ناتجه المحلى، أى نحو 70 مليار دولار كما تشير الأرقام.
إن تفجر أزمة لبنان كان ينبغى أن يحدث قبل 2019 لتكون كلفته أقل على المجتمع وعلى «سيادته الوطنية». والمسئولية فى تأخير الانفجار لا تقَع على «نخبه» وحدها بل أيضا على المؤسسات الدولية، خاصة تلك المناط بها الرقابة على التوازنات الاقتصادية كصندوق النقد الدولى، كما على الدول التى تعتبر نفسها «صديقة» للبنان وساهمت فى تضخم «الابتكار» النقدى.
إن لبنان يغرق اليوم فى دوامة «توزيع الخسائر». خسائر لا يكفى لمعالجتها انهيار العملة الوطنية عشرين ضعفا وإفقار شرائح كبيرة من مواطنيه ومقيميه وهجرة مئات الآلاف من شبابه إلى الخارج. خسائر لن تتمكن من تعويضها جميع مصارفه عبر سداد أموال مودعيها بالعملة الصعبة، ولا الدولة من حماية صغار المودعين، ولا المصرف المركزى من إرجاع اقتطاعاته من المصارف إليها. خسائر لا يُمكِن للدولة أن تُطفِئها حتى وإن فرطت بأصولها الحالية أو تلك المستقبلية، أى مكامن الغاز المتوقعة فى البحر المتوسط. خسائر لا تشكل الخطوة الأولى «للتعافى» فى الاتفاق المبدئى مع صندوق النقد الدولى، أى حذف اقتطاعات المصرف المركزى من المصارف التجارية من ميزانيته، ما يعنى تحقُق إفلاس جميع المصارف، سوى... مجرد خطوة «أولى».
والأنكى أن الخسائر تزداد يوما بعد يوم، بعد نحو سنتين ونصف من تفجر الانهيار، وتستنفد رويدا رويدا ما بقى من رصيد البلاد بأشد الحاجة له للخروج من المأزق. كما يتم استنفاذ المساعدات العالمية التى كانت مكرسة لدرء تداعيات أزمة وباء الكوفيد 19. هذا فى حين كان يُمكِن وقف النزيف بمنع التحويلات إلى الخارج منذ اليوم الأول، من كلٍ من الحكومة أو البرلمان أو المصرف المركزى، إلا أن هذه السلطات الثلاث ما زالت تتقاذف المسئولية حول ما جرى... ويجرى. بالتوازى فتح تعدد أسعار الصرف الرسمية وسياسات الدعم المجال لتحقيق أرباحٍ طائلة لمؤسسات احتكارية تسيطر «قانونيا» على تجارته الخارجية، وتُفاقِم من هذا النزيف.
والأنكى أيضا أن المصارف تعطلت أدوارها سوى فيما يخص فتح اعتمادات التجارة الخارجية ودفع بعض مستحقات الودائع بالقطارة حسب تعميمات المصرف المركزى. وبات الاقتصاد المحلى يعتمد بأغلبيته على التداول الورقى، خاصة بالدولار الأمريكى. وهذا يترتب عليه مخاطر إضافية، سواء فى إمكانية ضبط أسعار الصرف أو فى التعاملات مع الخارج. ذلك كله فى ظل تدفق تمويلات بـ«الكاش» لدعم أطراف القوى السياسية وميليشيات مختلفة، وفقدان الثقة بالمصارف وبالعملة الوطنية.
إن توزيع الخسائر أمرٌ صعبٌ ومؤلمٌ دوما ويخلِقُ حُكما صراعات اجتماعية وسياسية حول مسئوليتها عنها وعدالتها وسبل الخروج منها لولوج درب التعافى. فى النهاية، يتحمل المجتمع وسيتحمل أغلب كلفتها، سواء عبر انهيار ظروفه المعيشية أو عبر ضعف خدمات الدولة. هذا عدا ضياع الجزء الأكبر من حمايته الاجتماعية، وأموال صناديق التقاعد...
• • •
المطلوب أولا وأساسا من أجل تحمل ألم هذا التوزيع هو... الشفافية، وما يعنى على الخصوص فى لبنان إلغاء قانون السرية المصرفية الذى لم يعُد له نفع منذ زمن توقيع لبنان اتفاقيات التصريح الضريبى عن غير المقيمين... ودون نسيان أن هذا القانون أتى أصلا عام 1956 ليس فى سياق «اضطرابات» سياسية فى الدول المجاورة... بل بعد شهرين من تأميم مصر لقناة السويس، أى لحماية مصالح فرنسية وبريطانية حينها أكثر مما هو لجلب أموال عربية. وهذه الشفافية ضرورية لمعرفة من تلاعب فى تحول الأزمة إلى انهيار، بعد انفجارها فى 2019 بل وقبله، خاصة أن المسار نحو الانهيار كان يلوح بجلاء فى الأفق منذ 2016...
ما تُثبِته التجارب الدولية هو أن المعالجات السريعة للانهيار هى السبيل الوحيد للسرعة فى التعافى. وإلا بقى البلد غارقا فى انهياره وربما بشكلٍ متفاقم، حتى ولو تدخلت المؤسسات الدولية. هكذا كان الخروج من انهيار أيسلندا أسرع بكثير، رغم حجم الخسائر، من اليونان التى ما زالت دون بلوغ أوضاع ما سبق الأزمة.
فى هذه الأثناء، تُلهى الأطراف اللبنانية ووسائل إعلامها المجتمع بقضايا مختلفة، منها نظريات اقتصادية تعود للخمسينات، وبمسئوليات يرميها هذا على «حزب الله» وسلاحه وإيران وذلك على دول خليجية وحصارها واحتجازها يوما لرئيس وزراء البلاد أثناء عمله. وتجرى انتخابات تنتهى بتغيرات طفيفة فى موازين قوى الأطراف، لا تسمح بالخروج من فترات الفراغ المؤسساتى الطويلة التى تواصلت منذ 2005... من حكومات «تصريف الأعمال» إلى انتظار لانتخاب رئيس للجمهورية... فى ظل تحاصصٍ معطِل لمؤسسات الدولة على كل الأصعدة... الصعيد القضائى وغيره. هكذا لا محاسبة لا على الاغتيالات ولا على انفجار المرفأ المروع.
لبنان بلدٌ يستحق أن يستعيد عافيته ويعتمِد على دولة قادرة تُخرجه من الانهيار... ليس فقط لأن أرضه جميلة وشعبه يحرُص على حريات فريدة فى المنطقة... بل لأنه أيضا بلدٌ نقيض للدولة العنصرية التى تُهيمن جنوبه وللتجارب الشمولية التى تطغى... وتطغى حوله.
سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات