أصالة «سيزا قاسم» وحداثتها النقدية - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 11:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أصالة «سيزا قاسم» وحداثتها النقدية

نشر فى : السبت 13 يناير 2024 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 13 يناير 2024 - 9:10 م
ــ 1 ــ
خسر الوسط الثقافى والنقدى العربى ناقدة عظيمة، وصاحبة ريادة ثقافية وفكرية «أصيلة» هى الأستاذة الدكتورة سيزا قاسم (1935 ــ 2024) الناقدة والمنظرة الأدبية، ومحللة الخطابات التراثية، وأستاذة الأدب بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير مجلة (ألف) للبلاغة المقارنة التى تصدر عن الجامعة الأمريكية، وإحدى مناراتنا المشعة «مصريا» فى الدرس النقدى العربى الحديث والمعاصر.
كانت المرحومة سيزا قاسم تلميذة الدكتورة سهير القلماوى النجيبة التى درست الأدب الفرنسى، وامتلكت زمام معرفة الثقافة الغربية، ولم يثنها ذلك أبدًا بتشجيعٍ من أستاذتها الجليلة على درس اللغة العربية، والأدب العربى، وأن تتعمق البحثَ وتخطو فيه خطوات واسعة، فتقدم لنا نموذجًا فذًّا للتكوين المعرفى الذى نفتقده الآن؛ الجمع بين جناحى المعرفة «العربية» الأصيلة، ونظيرتها غير العربية (المعرفة التى أنتجها الآخر الغربى)، وأن تمتلك سبل ومقومات البحث فى التراث العربى الزاخر، بذات المهارة والكفاءة التى تطلع فيها على أحدث مستجدات الفكر والثقافة والمناهج النقدية «الحداثية» فى الثقافة العالمية.
باحثة مقتدرة تكتب بحثًا رياديًّا فى درس الأدب العربى الحديث (أطروحتها للدكتوراه)، وتطبق «البنيوية» بكفاءة واقتدار على نص روائى مذهل مثل (ثلاثية نجيب محفوظ) بذات الكفاءة والقدرة التى أنجزت قبله بحثًا آخر رائدًا فى التراث العربى (والتراث الأندلسى)، تدرس فيه واحدًا من أشهر وأمتع كتب النثر العربى «طوق الحمامة» لابن حزم (تحليل ومقارنة)، وتقدم استقصاء وافيا عن الكتاب وعصره ومؤلفه، وطريقة تأليفه، ومكانته فى تراث الكتب والمؤلفات التى تناولت الموضوع ذاته «الحب»، شعرًا ونثرًا، وأخيرًا استقصاؤها المدهش لأثر الكتاب فى الثقافة الغربية.
ــ 2 ــ
وفى رأيى أنها حققت ــ بأطروحتيها للماجستير والدكتوراه ــ الهدف الحقيقى والغاية الأصيلة من ضرورة إجراء البحثين فيما بعد الليسانس؛ والتى يمكن تلخيصها فى إتمام التدريب النقدى اللازم والتأهيل الأكاديمى والبحثى على أكمل وجه، وأرفع مستوى، وتقف بقدمٍ راسخة فى حقل التراث العربى والأدب العربى ممتلكة لأدواتها اللغوية والمعرفية والمنهجية، بذات الرسوخ والثقة التى نهلت فيها من الثقافة الغربية الحديثة، والمنهجيات المعاصرة فى اللغويات والنقد الأدبى والسرديات وغير ذلك.
وتقرر بجرأة مدهشة وجسارة متناهية أن تكون أول من يطبق المنهج البنيوى (الذى كان فى ذلك الوقت من أواخر السبعينيات من القرن الماضى «بدعة مستحدثة»، ويونانى لا يقرأ!) على نص روائى هائل مثل «الثلاثية» لروائى معاصر (نجيب محفوظ كان حيًّا فى ذلك الوقت الذى أنجزت فيه بحثها للدكتوراه) مجترحة تقليدًا أكاديميًّا كان يفضل بل يصر على عدم دراسة أى أديب ما زال على قيد الحياة! وكأنه لكى يدرس هذا الأديب أو ذاك المبدع يجب أن يقدم شهادة وفاته كى يكون مستحقًا للدراسة!.
وأظن أنها كانت تحتذى فى ذلك المسار خطوات أستاذتها التى كانت بدورها تلميذة لطه حسين؛ الذى أرشدها ووجهها إلى دراسة موضوع فى صميم الأدب العربى القديم، وفى صميم التراث العربى (أدب الخوارج) فى الماجستير، قبل أن تجعل المناهج الحديثة قبلتها، وتفيد منها فى درسها التاريخى «التحليلى» لنص أصيل من نصوص التراث العربى كذلك، وهو كتاب «ألف ليلة وليلة».
وقد كانت سيزا قاسم تؤمن إيمانًا جازمًا بأن علاقة «التلميذ/ الأستاذ» من العلاقات العزيزة التى إذا عرفها الإنسان بحقها حملها وسامًا على صدره طوال حياته، دالًا على جذوره. وكان تستشهد بتقليد علماء الإسلام الكبار إذ كانوا يعرفون فى كتب «السير والتراجم والطبقات» بذكر أسماء شيوخهم، فبقدر الشيخ يقوم المريد. ومن ثم ظلَّت طوال عمرها تفخر بتتلمذها على يد سهير القلماوى، وعلى تعلمها على يديها، وأنها تمثلت تجربتها فى التتلمذ بدورها على يد طه حسين، ومتجاوزة المدى الأبعد فى الدراسات التى أنجزتها تاليًا بعد رسوخ قدمها، ونضوجها العلمى والمعرفى.
ــ 3 ــ
هكذا سعَت سيزا قاسم، مثل أستاذتها الجليلة، إلى امتلاك جناحى التأسيس والتكوين اللازمين لأى باحث جاد وناقد أصيل؛ بالوقوف على قدم ثابتة وراسخة فى أرض ثقافتها الأم «اللغة العربية، والأدب العربى، والتراث العربى»، وبإجادة اللغات الأجنبية (كانت تجيد الإنجليزية والفرنسية بطلاقة)، واكتساب المنهجيات الحديثة واستيعابها، وعرضها للقارئ العربى فى ثنايا التطبيق على نصوص عربية.
ولم يكن غريبًا أن تنطلق سيزا قاسم بعد ذلك إلى آفاق رفيعة فى الدراسات التراثية، والدراسات المنهجية على السواء، فتكتب بحثا رائعا عن «الخطاب التاريخى» من التقييد إلى الإرسال، تدرس فيه نصوص الطبرى والمسعودى وابن خلدون، وتكتب عن «توالد النصوص وإشباع الدلالة» تطبيقا على خطابات تفسير القرآن الكريم (نشرت هاتين الدراستين مع مقالاتٍ ودراساتٍ أخرى فى كتابها «شذور الذهب فى التفسير والتاريخ والفن والأدب»، وصدر فى 2023 عن سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة).
كما تشترك مع المفكر الراحل الدكتور نصر أبو زيد فى إعداد وتحرير أول كتاب بالعربية يعرف بأنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة «مدخل إلى السيميوطيقا»، وتقدم كتابها المرجعى كذلك «القارئ والنص» تبلور فيه نظرية للقراءة المنهجية، ومدخلًا للتحليل النصى، وتحليل الخطاب... إلخ.
ــ 4 ــ
هذه هى «الثقافة» الرفيعة المتمكنة التى نفتقدها الآن، و«التكوين المعرفى» الأصيل الذى للأسف الشديد غاب تقريبًا، وبالكلية، عن «خريجينا» و«باحثينا» وعن كثيرٍ من أعضاء هيئات التدريس فى جامعاتنا المصرية، فانطفأت شعلة التنوير، وتراجع مسار النهضة والتحديث الذى لطالما تمنينا استمراره واكتماله، وصرنا إلى ما نحن فيه.. مجرد «أفراد» معدودين، ومواهب «استثنائية» تؤكد القاعدة ولا تنفيها، وجزر منعزلة غير قادرين، ولا فى مقدورهم، أن يتكاتفوا معًا ليصنعوا «تيارا» تنويريا أصيلا، وثقافيا نهضويا حقيقيا.
رحم الله الدكتورة سيزا قاسم، وجازاها خير الجزاء عما علَّمت ونفعت وأفادت.