رحيل عاشق لفلسطين - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحيل عاشق لفلسطين

نشر فى : الخميس 13 أغسطس 2009 - 12:05 ص | آخر تحديث : الخميس 13 أغسطس 2009 - 10:12 ص
عندما قرأت نبأ رحيل المناضل الفلسطينى الشامخ شفيق الحوت فى إحدى الصحف العربية فى الأسبوع الماضى، اجتاحتنى مشاعر حزن غامرة لغياب مقاتل من أجل فلسطين بهامة الرجل، وتداعى إلى ذهنى شريط ممتد من الذكريات مر أمام ناظرى كأننى أعيش لحظاته مجددا. مرت الدقائق ثقيلة على النفس فها هى هامة أخرى من الهامات العالية للنضال الفلسطينى تغيب عن ساحة هذا النضال فى وقت هى أحوج ما تكون فيه إلى شفيق الحوت ومن حذا حذوه.

غير أننى ترددت طويلا قبل أن أحزم أمرى وأقرر الكتابة عن الرجل، فكيف أكتب عن شفيق الحوت فى وقت لم تعد الأجيال الجديدة فى مصر تعرف من هو جمال عبدالناصر، ولا تدرى من أمر مصطفى النحاس شيئا إلا الشارع الذى يحمل اسمه فى مدينة نصر وهلم جرا، وكيف أكتب عنه والصحف المصرية التى قرأتها على الأقل لم تشر إلى رحيله بحرف، ولم أدر حقا أيجوز لى أن أبدأ الكتابة عن الرجل باعتذار لقراء الشروق عن إملال محتمل مما سوف أكتبه أم أن المسألة لا تحتمل هذا كله، ولعله مما حسم أمرى أن إحدى المقولات السخيفة التى تشيع عن القضية الفلسطينية فى أوساط مصرية وعربية أن أبناءها هم المتسببون فيها والمستفيدون من بقائها دون حل، وهى اتهامات تصح دون شك فى حق بعض المنتفعين من ضعاف النفوس أو مدعى النضال الذين لا تخلو منهم مسيرة أى شعب من أجل تحرره، لكن إطلاقها على عواهنها يظلم على نحو بين الأكثرية من أهل فلسطين من المناضلين الذين يأتى رجل كشفيق الحوت فى المقدمة منهم.

هو ابن يافا. تلك المدينة التى حدثنا أبناؤها من الذين أسعفتهم ذاكرتهم عن الحياة فى فلسطين قبل نكبة 1948 عن جمالها الخلاب، وهو جمال لا يبدو معه تعلقهم النبيل بها كرمز لفلسطين المغتصبة أمرا مستغربا. وعندما وقعت النكبة كان شفيق الحوت فى السادسة عشرة من عمره تقريبا، وقد اختزنت ذاكرته وقائع حياته فى حبيبته يافا. وتجسد مذكراته التى كتب فيها تفاصيل التفاصيل عن كل شارع وحارة وزقاق ومقهى ومدرسة فى يافا معنى ضياع الوطن الذى يذوب المرء فيه عشقا، ولا أحسب أننى قرأت عن مأساة لجوء الشعب الفلسطينى أبلغ مما كتبه شفيق الحوت فى المذكرات نفسها عن رحلة اللجوء إلى لبنان حيث استقر به المقام، خاصة أن أسرته اليافاوية تنحدر من أصول لبنانية.

فى لبنان قضى عمره كله من أجل قضية وطنه وأمته، باستثناء سنوات قليلة سافر فيها إلى الكويت فى بداية حياته العملية ليعود مديرا لتحرير مجلة «الحوادث» الشهيرة فى لبنان، وكان بإخلاصه لقضيته مساهما أساسيا فى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وكان أول ممثل لها ومدير لمكتبها فى بيروت، كما كان عضوا فى اللجنة التنفيذية للمنظمة عندما وقعت هزيمة يونيو 1967 فلعب دورا بارزا فى ترسيخ الشرعية العربية لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل انعقاد قمة الخرطوم وفى أثنائها، وهى القمة التى انعقدت فى أواخر أغسطس وأوائل سبتمبر 1967 أى بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على الهزيمة، وسبق انعقادها خلاف على موقع المنظمة من اجتماعات القمة، وهل يتساوى حضورها مع حضور غيرها من الدول العربية أم يكون لها وضع أدنى؟، وفرض أحمد الشقيرى رئيس المنظمة آنذاك ورجاله من أمثال شفيق الحوت أن يكون حضور المنظمة على قدم المساواة مع باقى الحاضرين، وبالإضافة إلى ذلك لعبت المنظمة دورا فاعلا فى صياغة قراراتها خاصة لاءاتها الشهيرة: لا صلح ــ لا تفاوض ــ لا اعتراف.

تولى عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة للمرة الثانية بين سنتى 1991 و1993 حين استقال احتجاجا على اتفاقيات أوسلو ليكون واحدا من أولئك الفلسطينيين الذين تمتعوا بنفاذ البصيرة فأدركوا منذ الوهلة الأولى أن أوسلو لا تعدو أن تكون ــ بغض النظر عن أى مكاسب ربما تكون قد حققتها للفلسطينيين ــ سرابا كبيرا ووهما خادعا إذا قيست بمقاييس استعادة الشعب الفلسطينى حقوقه المغتصبة.

هكذا لم يتخل شفيق الحوت يوما عن إيمانه بقضيته والمبادئ الحاكمة لحلها، ولذلك ظل دوما صوت الحق الذى لا يتأثر سوى بمصلحة الشعب الفلسطينى وقضيته، وزهد فى كل شىء إلا الدفاع عن هذا الشعب وتلك القضية، لم يجلس يوما وهو يرتدى ملابس بالغة الأناقة خلف مكتب شديد الفخامة متوخيا الشرعية كما فعل كثيرون غيره بعلم فلسطين يبدو منتصبا من خلفه، ولم يغير مسكنه المتواضع فى بيروت أو نمط ملابسه التى تدل على أن صاحبنا لم يكن لديه من هم الدنيا سوى شعبه وقضيته، ولعله كان يذهل من مشهد السيارات المرسيدس التى أخذت تتابع فى «جلال» منذ تسعينيات القرن الماضى وهى تسقط هذا المسئول الفلسطينى أو ذاك أمام مدخل قاعة اجتماع أو ساحة احتفال يهتف فيها لفلسطين، وتصاغ بيانات النضال من أجل تحريرها فيما يجرى ذبحها من تحت الطاولة، ولعل الحسرة على مآل قضية كانت تغمر كيانه وهو يرى بعضا من قادتها وقد انشغلوا ببناء أشباه القصور مقارا لسكناهم، وأخذوا يسرون عن أنفسهم من ملل «النضال فى سبيل القضية» بالانغماس فى الأعمال الخاصة وتكديس الثروات.

أذكر يوما منع فيه من دخول مصر بعد أن وصل مطار القاهرة تلبية لدعوة وجهتها له المؤسسة التى أشرف بإدارتها، للمشاركة فى إحدى الندوات العلمية التى كان له دور أساسى فيها، وبقى الرجل وزوجته المخلصة والأكاديمية البارزة الدكتورة بيان الحوت ساعات طويلة ثقيلة فى المطار انتظارا لطائرة تعيدهما لبيروت بعد أن أخفقت جميع الاتصالات وعلى أعلى المستويات لتسهيل دخولهما إلى القاهرة، ولأننى لم أتمكن من رؤيته يومها شعرت أن الواجب يحتم على أن أقدم له شخصيا اعتذارا عما وقع فى أول لقاء بيننا، وسرعان ما حانت الفرصة بزيارة بيروت، واتصلت به قبل سفرى استأذن فى زيارته بمنزله فأجابنى بألفته المحببة بما يفيد أننى لست بحاجة إلى موعد أصلا، ومع ذلك كنت قلقا من مقابلته متخوفا من أن يكون ما حدث قد أغضبه إلى الحد الذى يؤثر على حميمة اللقاء فإذا بى لا أجد سوى تلك الابتسامة الهادئة التى تكسو وجهه بملامح طيبة لا تنجح قسماته الصارمة فى إخفائها، ولا أسمع إلا كلمات الامتنان على مبادرة كان يرى ألا لزوم لها فما وقع لا ذنب لنا جميعا فيه، وانساب الحديث بيننا كأن شيئا لم يكن، وامتد الحديث فيما امتد إلى «المناضلين» الذين يغيرون مواقفهم سعيا وراء أشياء لا يستطيع بنقائه الوطنى أن يفهمها.

ولن أنسى ما حييت كلماته الجادة ــ وكنت أظنه فى البداية مازحا ــ وهو يقول إنه يجد نفسه من حين لآخر منساقا إلى الوقوف أمام المرآة والتفرس فى وجهه مليا ومخاطبة صورته فى المرآة: «يا أنت أما زلت شفيق الحوت ابن فلسطين والمناضل من أجل قضية شعبها والمتمسك بثوابت هذه القضية؟ إياك أن تتراجع أو تتلون أو تخون».

وقد كان، ونجح شفيق الحوت باقتدار على امتداد مسيرة نضاله أن ينهى هذه المسيرة كما بدأ أول مرة مقاتلا صلبا عنيدا من أجل استعادة حقوق شعبه، وأن يكون نعم الابن المخلص لفلسطين، وأن يكتب خاتمة لنضاله من أجلها وقد وهن العظم منه، ودخل فى صراع شرس مع المرض الفتاك لكنه انتصر فى النهاية كما انتصر دائما، فقد غادر دنيانا كريما عزيزا تاركا لشعبه مثلا أعلى يضىء له طريق استعادة الحقوق.

 

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية