بَعد إذنِك - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بَعد إذنِك

نشر فى : الجمعة 14 فبراير 2020 - 8:20 م | آخر تحديث : الجمعة 14 فبراير 2020 - 8:20 م

اتَّجَهت السيدةُ الخمسينيةُ نحوي في عزمٍ بادٍ، والجديةُ تلوّن ملامحَها وتكسو حركتَها النشِطة. لم تنظُر لي إنما انحرفت قليلًا إلى اليمين وانحنت تمدُّ ذراعَيها نحو الوسادةِ العريضة، وتلتقطها مِن على مقعد يجاور مقعدي. لا كلام ولا سلام، لا سؤال عن رفيقةٍ أو رفيقٍ لهما في الوسادةِ حقٌّ مُسبَق، ولا إعلان بأنها سوف تسحبها مِني؛ شئت أو أبيت. لم أسمع عبارةَ استئذان ولا تحيةً عابرة سَقَطَت مِنها خلال مُغادرتها السريعة. أتمَّت غزوتَها الناجحة وانصرفت بالغنيمة.
***
تكرر الأمرُ بعد قليل. أتت سيدةٌ ثانيةٌ لتحملَ المقعدَ نفسَه، مُفتقِرًا لوسادته، فيما عيناها مُثبتتان على عينيِّ. قامت بمُحاولة لإزاحةِ المقعدِ وحدها؛ لكنها فشلَت. نادت صاحبتَها كي تعاونها، بينما لا تزال تُحَملِق باتجاهي، لا تنطُق هي الأخرى كلمةً؛ وكأن المقعدَ جزءٌ مَسلوبٌ مِنها، تسعى حثيثًا لاستردادِه.
***
خلال ساعتين قضيتهما في المكانِ نفسه؛ جُرِّدتُ تباعًا مِن مساحات الخصوصية التي افترضْت بداهةً أنها تحيطُ بي، كما انتُزِعَت أغراضٌ تقع في دائرتي الشخصِية؛ لا أملِكها بالتأكيد، لكنَّ الأعرافَ والأصولَ المَرعيةَ تقتضي إشراكي ومُشاورتي ما أراد وافدٌ التَحَصُّلَ عليها. انتظرت مَسلكًا مألوفًا فتلقَّيت ما لم أعتَدْ، وتوقَّعت ولو إيماءةَ رأسٍ مُستَرضِيةٍ أو ابتسامة تستدرج مِني مُوافقةً ضِمنيَّةً؛ فحصُلت بدلًا مِن هذه وتلك على تحديقٍ أجوَف وصَمت عَجيب.
***
بدا مَسلكُ السيدتين اللتين تجاوز عمراهُما ولا شكَّ الخمسين، أقرب إلى أداءِ آلةٍ غير بَشرية؛ لغةُ جَسدٍ باردةٍ وغير ودودةٍ على الإطلاق، نَمَط سلوك يُمكن وصفُه بالعدوانيّ، وغيابٌ تام لإشاراتِ التَواصُل الإنسانيّ. كلٌّ مِنهما تنفذ عملًا مُحددًا، لا تحيد عن هدفِها، وكأن هناك مَن سيمنعها عن إتمام المُهمَّةِ المُقدَّسة.
***
لم تكُن بي حاجةٌ للمقعد، أو للوسادة، أو حتى للمنضدةِ المُستقرَّةِ أمامي. لست في انتظار أصدقاءٍ وصديقات ولا أخطط لجلسةٍ واسعةٍ تجمع كثيرين؛ فقط أحاول الانتهاء مِن عَملٍ ثقيل، أضع فيه تركيزي وأسعى لتجنُّب التشتيت. رغم أن السيدتين جاءتا ورحلتا بلا صوت تقريبًا، فقد قطعتا عزلتي وجذبتا انتباهي بأكثر مما فعل آخرون؛ عبروا بي وتوقفوا لبُرهة: شابة تسأل عن الطريقِ إلى الحمَّام، وأخرى تبحث عن مقبس لشَحن بطارية المَحمول، ورجل مُسِنّ يريد مَعرفةَ التوقيت؛ مُستاءً لعدم انتهاءِ زوجتِه من التبضُّع في المَوعِد الذي اتفقا عليه.
***
تركت ما بيديّ وتابعت السيدتين واحدة بعد أخرى. وَضَعَت الأولى الوسادةَ الإضافية على الأريكةِ؛ لتصبح خلفَ ظهرها اثنتان بدلًا مِن واحدة، ومدَّت يدها تتناول قطعةَ بسبوسة بيتية الصُنع سردت إحدى رفيقتيها وصفتها في تباهٍ، بينما عادت السيدةُ الثانية بالمقعد تحمله وصاحبتها في خطوات مَزهوة إلى أن دفعتا به وسط مجموعة كبيرة مِن الزميلات، وجلستا تشاركان في حديث عامر بالحيوية والثقة، متخليتان عن الجمود الذي اعترى زيارتهما لي.
***
خلال لحظات ارتفعت الأصواتُ بقوة وتردد صداها الصاخبُ بين أرجاءِ المكان؛ ولم يَعُد تمييزُ الكلماتِ سهلًا، فضلًا عن استحالةِ العودةِ إلى أوراقٍ؛ تبعثرَ مُحتواها في رأسي. كانت سيداتُ المجموعتين يتكلمن في وقتٍ واحد، وليس فيهن مَن تستمع لحديث جارتِها أو تجتهد للردّ عليها. الكلامُ قوةٌ وكلُّهن قويات، المُتكلّم مُسَيطِر وكلُّهن مُسيطِرات. لن تسمح واحدةٌ بسيادةِ أخرى ولن تترك لها قيادةَ القعدة؛ ولو كلَّفها الأمرُ مَعركةً نِصفَ شرسة، نِصفَ وِدية؛ تفرض بها وجودَها.
***
مع استسلامي للحال وصلت أذنيّ بعضُ المُقتَطَفاتِ مِن حواراتِهن، وقد ظهرت فيها الخلافاتُ والانتقادات والمُنافساتُ الحادة؛ إلى أن قطع اشتباكهن أحد المسئولين؛ ينبه إلى تعليمات واضحة تمنع اصطحاب المأكولات مِن خارج المكان. انطلقت السيدات على الفور؛ هذه المرة بترتيب جلوسهن، يدافعن بحماسة وغضب عن صينية البسبوسة. لم تتوقف إحداهن عن شحذ الأسباب والمُبررات في مُرافعتِها إلى أن رحلَ الرجلُ نادمًا مَهزومًا. كان الموقفُ داخل المَجموعة الواحدة مُعقَّدًا، لا ينسجم أعضاؤها تمامًا، لكنها تظلّ صلبةً في مُواجهةِ الغُرباء، تعمل ككُتلة واحدة، تدخل المواجهات الخارجية بكاملها وليس بفرد منها؛ بل وتُحقّق الانتصارات، لكن هل يسري مَسلكها هذا في الأمور الجسام؟
***
حضرت سيدة ثالثة ووقفت قبالتي، وجعلت تنظر إلى الوسادة التي أستند إليها، بادلتها نظرة دهشة حقيقية؛ فقد شَعُرت أنها تُفكّر جديًا في إزاحتي مِن مكاني لاقتناصها، لكنها لم تلبث أن تراجعت. ربما تبيَّنت حمْق الفكرة، أو رَدَعَها وضعُ التحفُّز الذي اتخذته مُتشبّثة بمَسند مقعدي، مُلتصِقةً بالوسادة.
***
عادت إلى مجموعتها وقد تخَلَّت عن غايتِها، فيما لملمت حاجياتي وقُمت أغادر المكان، وقبل أن أدفع الباب لمحت أفرادَ المَجموعة يقمن بدورهن التضامنيّ، ويشرن إلى مقعدي والوسادة، بينما تتجه إحداهن في سرعة نحوهما. ابتسمت وقد بدا لي مسلك السيدتين قابلًا للتفسير.
***
بعضُ الأوقات العصيبة، ينغلق الناس ويتكتلون مُحاولين حماية أنفُسَهم مِن تهديداتٍ تطرُق أبوابَهم، فإذا غُمَّ مصدر الاعتداء أو استحال ردُّه، جعلوا مِن كُلِّ آخر عدوًا مُحتملًا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات