السيدة سو آلين - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السيدة سو آلين

نشر فى : الخميس 14 مارس 2019 - 10:05 م | آخر تحديث : الخميس 14 مارس 2019 - 10:05 م



لم تقتنع صاحبتنا أبدا بأنه يمكن لشخصين لا يتحدثان لغة واحدة أن يرتبطا بعلاقة حب وزواج، هي تعلم جيدا أن ظاهرة الزواج المختلط ظاهرة موجودة بل إنها شائعة بل إنها شائعة جدا، لكنها هي التي كانت لا تفهم كيف تنشأ علاقة عاطفية بين اثنين يحتاج كل منهما أن يترجم الحروف الأربعة الذهبية المكّونة لكلمة : أُ حِ بُّ ك إلى أي لغة أخرى من لغات العالم الحية أو غير الحية، أُحبك إن قيلت بصدق فإنها تشّد بذاتها وبدون أي إضافات من نوع: جدا وكثيرا وفوق ما تتصور.. أحبك هي أُحبك. لذلك عندما ارتبط خالها ب "سو آلين" الشابة الأسكتلندية الجميلة وأدخلها إلى محيطهم العائلي فإنها أخذت وقتا طويلا جدا حتى تتقبل الموقف، ومع أن الجميع كان يختصر اسم زوجة خالها إلى سو، إلا أنها رفضت أن تحذو حذوهم، كانت تعتبر أن انتقالها من استخدام سو آلين إلى استخدام سو فيه حميمية لم تكن مستعدة لها بحكم تركيبتها الشخصية. لذلك واظبت صاحبتنا على جمل من نوع ذهبت سو آلين، جاءت سو آلين، وحين أشفق عليها أحدهم قائلا: لماذا لا تستخدمين اسم سو بدلا من اسم سو آلين الثقيل على الأذن؟ ردت ردا، الأرجح أن صاحب السؤال لم يفهمه، قالت: أتعمد أن يكون الاسم ثقيلا على الأذن !
***
كان خالها زوج سو آلين، هو الخال الأقرب إليها من كل أخوالها فالفارق العمري بينهما لم يكن كبيرا، والأهم أن روحه كانت شابة جدا، فكثيرا ما تسابقت وإياه في ركوب الدراجة، وكثيرا ما اختارت له بدلته ووضعت له فُلّة شاهقة البياض في عروة چاكتته قبل الانطلاق لإحدى حفلات الأوبرا . كان هو واسطتها كلما قالت أمها قولتها الخالدة: ماعندناش بنات تبات بره .. فما أن يتدخل خالها حتى تلين أمها وتسمح لها بأن تبيت بره عند إحدى الصديقات، فالخال سحره لا يُقاوَم وقدرته على الإقناع بلا حدود، معذورة سو آلين والله، هكذا قالت صاحبتنا لنفسها فمن ذا الذي لا يحب خالو؟ ولأنه كان بهذا اللطف وهذا الظرف وهذا الود فإنه كان كثير التردد على بيت أخته، حتى إذا ما تزوج تحولت زياراته الاعتيادية من فردية إلى ثنائية.. ياالله! كيف التصرف مع هذه الأجنبية الوافدة عليهم دون إحم ولا دَستور؟ كيف ستضحك على نكاتهم وتفهم أمثالهم وتتلذذ بطعامهم؟ على أي قناة سيثبتون التلڤزيون في وجودها؟ هل ستسخر من برد شتائهم وتستغرب دروشتهم وتنتقد كراكيبهم؟ لم تحب صاحبتنا زوجة خالها.. وتعطلت معها لغة الكلام، ليس بسبب عدم إتقان الإنجليزية، كلا وحاشا، إن صاحبتنا لا تسمح لأحد قط أن ينتقد إنجليزيتها فهذا جزء من برستيچها في مجتمع يبجّل كثيرا اللغة الإنجليزية، لكن لأنها تعتبر أن علاقات الحب والزواج .. بما فيها من معايشة يومية واحتكاك متواتر.. لا يمكن.. لا يمكن أبدا أن تكون إلا باللغة الأم، لذلك فإنها لم تغفر لسو آلين أنها خطفت خالها، وقررت بينها وبين نفسها أن تتجنبها.
***
مؤكد أن الوافدة الجديدة لم تكن تعلم شيئا عما يدور في رأس صاحبتنا، لكنها راحت تتصرف بشكل يوحي بأنها كانت تعلم. في كل مجلس للأسرة كانت سو آلين تتعمد التقرب من ابنة أخت زوجها، تسألها عن أي شيء وكل شيء وتبدي استعدادها للمساعدة، كيف السبيل لإفهام هذه المرأة أن عليها أن تتوقف؟ كانت صاحبتنا تحدّث نفسها دون أن تتوصل لحل يريحها وفي الوقت نفسه لا يجرح زوجة خالها. هكذا وجدت أنها مضطرة إلى أن تصحب سو آلين إلى خيّاطة الأسرة، وأن تشرح لها وظيفة منادي السيارات في الشارع المصري، وأن تدافع عن ضوضاء الأفراح رغم أنها تكرهها. ضحكت صاحبتنا وهي تجتهد في تفسير التناقض العجيب بين تزايد الاتجاهات المحافظة لدى المصريين وانتشار بدل الرقص في خان الخليلي، لم تكن هناك علاقة بين الاثنين فالشخصية المصرية محملة بكل أشكال التناقض، لكن طالما أن سو آلين تربط بين الأمرين فإن الواجب الوطني يحتّم التفسير. وعندما زار مفكر إنجليزي شهير جامعة القاهرة، طلبت زوجة خالها أن تحضر إحدى محاضراته واضطرت صاحبتنا لدعوتها، هل هي اضطرت؟ ربما لا، إن سو آلين كما يبدو قادرة على بناء الجسور مع أهل زوجها وإشعارهم بأنها واحدة منهم، إنها بالفعل واحدة منهم، ولو رسميا.
***
أما اللحظة الفاصلة في العلاقة مع سو آلين فكانت حين شارك الجميع في تشييع الجد الحبيب، كانت جنازة الجد كما هي العادة مناسبة اجتماعية للتلاقي والثرثرة واستعراض الثياب والمجوهرات، وكانت صاحبتنا في قمة الحزن والغيظ معا، فمشاعر الفقد ما زالت طازجة وصور الجد وذكرياته تملأ السرادق من العامود إلى العامود، ودّت لو صرخت فيهم اصمتوا اصغوا احزنوا ترّحموا أو اذهبوا، فلم تصرخ. فجأة وقفت سو آلين في حزن نبيل مخاطبة الكل: من فضلكم هدوء.. قالتها بعربية مكسرة لكن رسالتها وصلت، والعجيب أن الضجيج هدأ بعدها. رأت صاحبتنا زوجة خالها وكانت نظرت لها مرارا دون أن تراها، تفرّست في ملامحها المريحة فإذا بهذه الشقراء البريطانية أقرب إليها من كل هؤلاء النساء المتشحات بالسواد، هذا القُرب ليس مبعثه أن سو آلين نطقت بالعربية.. لا لا أبدا بل لأنها عبرت الاختلاف في الأصل والدين والواقع الاجتماعي وتصرفت بإنسانية، محض إنسانية. وصل المقرئ إلي آية "يا أيتها النفس المطمئنة" وأخذ الجمع ينفض فبدت سو آلين مرتبكة لا تدري ماذا تفعل بالضبط، اقتربت منها صاحبتنا بهدوء، ربتت كتفها وقالت لها بصوت متحشرج : جهّزي نفسك يا سو العزا خلص! انتبهت إلى أنها استخدمت اسم سو، لكنها لم تتدارك .


نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات