حضارة الطعام.. أكثر من وجبة - مواقع عربية - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حضارة الطعام.. أكثر من وجبة

نشر فى : الخميس 14 سبتمبر 2023 - 10:45 م | آخر تحديث : الخميس 14 سبتمبر 2023 - 10:45 م
نشر موقع 180 مقالا للكاتب سليمان مراد، يقول فيه إن الطعام أكثر من مجرد وجبة.. فهو حضارة وسيكولوجية وصداقات تنشأ بين الأفراد حول مائدة الطعام... نعرض من المقال ما يلى.
حضارة الطعام هى من الأمور التى يتساوى فيها وأمامها الناس، بغضّ النظر عن واقعهم الاقتصادى أو الاجتماعى. صاحب الوفرة الماليّة يمكنه أن يأكل ما يريد.. وبكثرة. لكن الوفرة لا تجعل الطعام أطيب، وتعدّد الأطباق فى الوجبة الواحدة ليس دائما بالأمر الجيّد. فى المقابل، غير الميسور ماديّا يمكنه أن يصنع من القليل الذى لديه مأدبة يسيل لها اللعاب، ويتسابق فى وصفها الشعراء والأدباء، ويبقى طعمها فى الفم إلى يوم الحساب!.
وصناعة الأكل هى فنٌّ نُسمّيه فى لبنان: نَفَس. إذا امتلكه الإنسان، يصبح قادرا على صنع عجائب الأطباق ولو من مكوّن أساسى واحد.. ومتواضع. لنأخذ مثلا طبق الكوسة المحشية بالأرز واللحمة المفرومة (ولا يدخَل عليها من التوابل إلا القليل من البهار الحلو الذى يُمزج مع الأرز واللحمة). الكوسة طعمها مقيت إذا أكلناها نيئة كما هو. لكن الكوسة المحشية مع صلصة البندورة ينتشل هذا النوع من بؤسه ويرفعه إلى أعلى عليّين. وحتّى غياب اللحمة منها (إذا لم تتوافر القدرة على شرائها أو رغبة بتجنّبها) لا يحطّ من طيب الكوسا المحشى.. حضارة الطعام ليست فقط مجرد وجبات نلتهمها.
فعل الأكل هو جانب واحد من حضارة الطعام. هناك الوقت الذى يتطلّبه تحضير معظم الأطباق لتكون جاهزة للأكل، ويتراوح عمليّا بين بضعة أيّام إلى بضع ساعات، ويُمكن أن يمتد أكثر إذا أخذنا فى الحسبان ما يتطلّبه تحضير المكوّنات الأساسيّة لكثير من الأطباق. وكلّ ذلك يعتمد على مساعدة الناس وينتج عنه الكثير من التواصل والوئام الاجتماعى. لنتصوّر مثلا كيف كان الناس يُحضّرون «المونة» فى فصل الصيف لاستهلاكها فى الفصول الأخرى، خصوصا فى فصل الشتاء حين تأخذ الطبيعة إجازة للاستراحة من عناء مواسم المحاصيل.
قبل اختراع آلات التبريد واستحداث تقنيّات نقل البضائع بسرعة من مكان إلى آخر حول العالم، كان الناس يعتمدون فى الكثير من وجباتهم طوال أيام السنة على ما يوفرون من «مونة» فى فصل الصيف: تجفيف الحبوب (القمح والعدس)، البقوليات (الفاصوليا)، المكسّرات (الجوز واللوز)، الفاكهة (مثل التين والعنب)، تخليل أنواع الكبيس (الخيار والباذنجان إلخ)؛ صنع المربّات (المشمش والسفرجل والتين وفواكه أخرى)، صنع الدبس والخل إلخ. كان تحضير ذلك يتطلّب عملا دئوبا يجتمع لأجله أفراد العائلة، لا بل أهل القرية فى أحيان معينة، وبالتالى ينتج عنه تآلف ولحمة بين الناس قلّ نظيرها فى وقتنا الحالى.
تدلُ حضارة الطعام على مدى اعتماد البشر على بعضهم البعض، وهذا الأمر له بعدان: الداخلى، أى اعتماد من يطبخ على من يزرع ويحصد وينقل و..، فمن دون ذلك، يظلّ الطعام بدائيّا. والبعد الخارجى يتمثل فى إدخال وصفات ومكوّنات جديدة من أماكن بعيدة، الأمر الذى يساعد فى تطوير الطعام وجعله أطيب مذاقا ويتطلب توافر مهارة يجب تعلّمها وصقلها فى المطبخ. فكثير من التوابل والفاكهة والخضار والبقوليات والمكسّرات كانت معروفة فقط فى أماكن محدّدة، لكن انتشارها خلق ثورات فى عالم الطعام وساعد فى تغيير عادات الأكل وطعمه وصار استخدامها له «أصوله».. الطعام هو فنّ له ديناميّة رائعة.
حضارة الطعام تشمل أيضا النقاشات وتبادل الأفكار والصداقات وأمورا كثيرة أخرى تبدأ أو تنضج أو تتعمّق حول طاولة الأكل لأنّها تقرّب بين الناس وتزيل «الفروقات» و«الرسميّات»، كأنّ لها سطوتها على من يجلس حول المائدة. ودخل الطعام أيضا فى قصص التراث وتعابير الكلام وقواميس اللغة. مثلا، عبارة «بِالمِشْمِشْ» التى تقال فى مصر منذ زمن وتعنى «لا»، بمعنى أنّ الأمر سيحصل عندما يبدأ موسم المشمش، لكن كما هو معروف لم يكن هناك من شجر مشمش فى مصر؛ وعبارة «بالمشمش» شبيهة بعبارة «إن شاء الله» فى كثير من الاستخدامات الشعبيّة. ومن عجائب أمور المشمش أنّه أنقذ مدينة دمشق وسكّانها فى سنة 1148، عندما هاجمها الصليبيّون. فلجهل الفرنجة بمضار المشمش (والذى أصله من الصين، ولكن اسمه العلمى هو «برونوس أرمينياكا» ــ prunus armeniaca ــ أى الخوخ الأرمنى)، وبعد أن تمدّدوا فى غوطة دمشق، وجدوا شجر المشمش فى أحلى مناظره، فأكلوا منه بكثرة فتسبب لهم بإسهال أجبرهم على فك حصارهم عن دمشق، فتركوا متاعهم والكثير من سلاحهم وتقهقروا.
دخل الطعام أيضا فى هويّاتنا الوطنيّة السياسيّة ونستخدمه فى المفاضلة بين الدول فى بلادنا العربيّة وفى كثير من دول العالم أيضا، كما هو الحال مع الفول المدمّس والفلافل والكنافة وأطباق كثيرة. وهناك عادة تعريف بعض الأطباق بالبلد التى كان أصلها منه (حسب ما يزعم الناس طبعا)، مع العلم أنّها أصبحت فى يومنا هذا عابرة للمدن والبلدان والقارّات. مثلا، طبق المقلوبة بالباذنجان أو القرنبيط، نقول إنّه «طبق فلسطينى» (كما يشاع)، والكشرى نربطه بمصر (مع العلم أنّ هناك خلافا عن أصله وهل هو مصرى أم هندى). وهناك الاعتقاد الشائع أنّ «البيتزا» جاءت من إيطاليا (مدينة نابولى تحديدا)، مع العلم أنّ البيتزا هى نوع من المناقيش (معجّنات مرقوقة يوضع عليها زعتر أو جبنة أو لحمة أو..) وهى منتشرة منذ زمن قديم فى معظم دول حوض البحر المتوسّط.
لكن أهمّ ما فى حضارة الطعام هو تعلّقنا بها، فأكثر ما نفتقده عندما نهاجر هو أكل بلدنا وطعمه. يمكننا الآن أن نشترى الكثير من أطباق بلدنا فى أماكن كثيرة حول العالم (باريس، لندن، نيويورك، إلخ.)، لكنّنا نجد طعمها مختلفا عن الذى اعتدنا عليه (بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك صحيحا أم لا، وإذا كان الجديد أفضل أم أسوأ ممّا اعتدنا عليه). لذلك، الطعام هو أكثر من وجبة. هو سيكولوجيا وأحاسيس، هو ذكريات وحنين، هو صداقات وعادات، وأشياء أخرى كثيرة.
النص الأصلى

التعليقات