ماذا وقد استوطنا الغضب؟ - هاني شكر الله - بوابة الشروق
الجمعة 25 أبريل 2025 2:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

ماذا وقد استوطنا الغضب؟

نشر فى : الأحد 15 فبراير 2009 - 9:33 م | آخر تحديث : الأحد 15 فبراير 2009 - 9:33 م

 ماذا نفعل وصور قتلانا تتزاحم في العقل وتحفر لنفسها حفرا عميقة في الذاكرة؟ ماذا نفعل إزاء صورة طفلة جميلة مسجاة فوق لوح خشبي، تبدو نائمة - "تأكل أرزا ولبنا مع الملائكة" - لو لم تكن محمولة علي أكتاف أهل يوشكون أن يواروها التراب؟

ماذا نفعل وصورة محمد الدرة -مرتعدا ومحتميا بأبيه من لعبة نيشان يتسلي بممارستها بضعة جنود ملولين- تقبع متخندقة في ثنايا المخ لا يمحوها مرور الزمن ولا يقتلعها طوفان الصور المتتالية لعشرات وعشرات من الأجساد الصغيرة والهشة والبريئة والممتلئة حيوية، وقد مزقت وانتهكت وانتزعت منها الحياة.

ماذا نفعل إزاء الصورة المروعة التي يغرسها في عقولنا غرسا خبر أطفال بقوا أربعة أيام قابعين فوق جثث أمهاتهم، ممنوعين من رشفة ماء أو لقمة خبز أو حضن من قريب أو غريب يخفف ولو قليلا من فزع وحسرة يعجز الخيال عن تصورها؟

نتذكر سنوات طفولتنا، وكم كان عالم الكبار موحشا ومخيفا، لو لم تكن طمأنينة الأهل والأقارب والجيران. نفكر في أطفالنا فيجفل العقل مرتعدا من طيف يمر في ثواني ليصورهم في موقع طفلة ترقد فوق لوح خشبي أو ولد يقتل وهو محتميا بظهر أبيه أو طفل يحاول إيقاظ أمه القتيلة طلبا لبعض الطمأنينة ورشفة ماء.

نغضب، ونغضب ويعتصرنا الغضب. دورات من الغضب لا يبدو لها من نهاية تختلط فيها صور القتل والقتلى. الكابوس هو نفسه يعاودنا بتعديلات طفيفة مرة بعد مرة، فتكاد الفواصل بين الأحداث واختلافات الزمان والمكان تذوب بعضها في البعض الأخر. مشاهد من بعيد لطائرات ومروحيات تقصف أهدافها، دخان يتصاعد وجنود يتضاحكون ويتغامزون وهم يعبون فوهات مدافعهم. ومشاهد من قريب لقتلي وجرحي، أجساد محترقة وممزقة وبيوت مهدمة، أمهات تبكي علي جثث أطفالها، وأطفال يبكون فوق جثث أمهاتهم. الصور هي هي، وكذا السياقات وكذا التوابع وردود الأفعال.

تقلب في الجرائد وتكاد توقن بأنك قرأت نفس العنوان بل والخبر نفسه من قبل، وتتنقل بين الفضائيات فتكاد توقن أن كل ما تراه وتسمعه رأيته وسمعته من قبل.

يسمونها بالفرنسية ديجا فو dejas vu))، ومعناها الحرفي "شوهد من قبل". العبارة تشير إلي ذلك الإحساس الذي يصيب المرء أحيانا بأن ما يحدث له في التو واللحظة قد حدث بنفس الشكل منذ زمن بعيد، ويبدو إننا بتنا نعيش حالة متواصلة وجماعية من "الديجا فو"، لا تشمل المذابح المتتالية فحسب، وإنما تمتد لتشمل كل شيء، كأن الجميع، معتدون ومعتدي عليهم، أنظمة وشعوبا، قوي دولية وإقليمية، قد اتفقوا علي لعب نفس الأدوار مستخدمين الحوار نفسه – مع بعض التعديلات الطفيفة التي تليق بالمناسبة.

تعبيرات الغضب العربي صارت هي أيضا موضوعا "للديجا فو". مظاهرات ومانشتات صحف وعواميد كتاب وتعليقات فضائيات، جميعها تكاد أن تكون نسخ طبق الأصل مما سبقها، مع كل عدوان جديد، ومع كل مذبحة جديدة.

مضت عقود منذ أن بشرتنا فيروز بأن "الغضب الساطع آت"، وجاء الغضب بالفعل، وظل يجئ ويجئ أعواما بعد أعوام وعقدا بعد عقد حتى صار العرب ومعهم المسلمون في عرف العالم بأسره هم أكثر الشعوب غضبا وإحساسا بالمهانة وطلبا للانتقام. غضب الشارع العربي بات موضوعا للنظريات والدراسات والندوات والمؤتمرات. المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية وجدوا فيه ضالتهم لصياغة سياسة عالمية قوامها الحرب وعمادها التفوق العسكري. والأنظمة العربية بدورها اعتمدت عليه باعتباره أهم كارت في جعبتها لمفاوضة الغرب وإسرائيل.

كم من المرات سمعنا أو قرأنا تصريحات لزعماء سياسيين وخبراء أكاديميين وموظفين إقليميين ودوليين يهددون بأن فشل هذه المفاوضات أو تلك، أو الاستمرار في هذا العدوان أو ذاك سيقذف بالمنطقة العربية كلها، بل والعالم الإسلامي بأسره، إلي هوة سحيقة من الفوضى والعنف والإرهاب مطلقة العنان؟ كم من المرات شهدنا الزعماء العرب أنفسهم يحذرون إسرائيل وأمريكا وأوروبا من مغبة إهمال مقتضيات استقرار أصدقائهم المعتدلين، ليستمدوا من ضعفهم بالذات ومن هشاشتهم وكهولتهم وسخط شعوبهم عليهم قوة تفاوضية قوامها خطورة البديل القابع في ذلك الكيان المجهول والمخيف والمسمي "بالشارع العربي".

المشكلة أن أحدا لم يعد يصدق في أن الغضب العربي بكل هذه الخطورة. كافة الأطراف تقريبا تري فائدة في التلويح بمخاطره. يستخدم في أحيان كمبرر للعدوان، وفي أحيان أخري درءا له، ولكن لا يبدو أن أي من هذه الأطراف يضعه في الاعتبار حين يصوغ سياسته إلا في أدني الحدود.

الكل شارك في تحويل غضبنا من طاقة للتحدي إلي ما يشبه الذهان العصبي، فورات من الهياج يتلوها هدوء مترنح لتتلوها فورات هياج مجددة. الحكومات نجحت نجاحا مبهرا لا في محاصرة السخط الشعبي وقمعه وتبديده في مسارات شائهة فحسب وإنما في القضاء علي المجال السياسي بأسره، مستبدلة السياسية بصراعات قبائل وطوائف وشيع. المثقفون والزعماء السياسيون شاركوا بدورهم حين أعلو من المصالح الشخصية أو الحزبية أو القبلية فوق المصلحة العامة، وحين قبلوا – بل وساهموا – في الانحطاط بالعقلانية إلي مستوي الواقعية الذليلة والقبول بالأمر الواقع، وحين جعلوا من المقاومة مرادفا للانتحار والطنطنة الفارغة والضجيج بلا طحن. الشعوب بدورها استجابت استجابة متحمسة لمساعي كل من الحكومات والزعماء السياسيين والأيديولوجيين فأشهرت السيوف فوق الزجاج الخلفي للسيارات، ووجهت سخطها نحو نفسها (علي طريقة "مقدرش علي الحمار...").

انتهي العدوان الإسرائيلي علي غزة تاركا ورائه أكثر من ألف وخمسمائة قتيل، من بينهم قرابة خمسمائة طفل، و5450 جريح وأكثر من عشرين ألف منزل مهدم، وتاركا ورائه أيضا احتفالات مخجلة بالنصر، ومطاردات وإعدامات لعناصر من حركة فتح.

آتي الغضب إلي العرب واستقر بينهم، ترك "جياد الرهبة" وتوطن، يعتادنا ونعتاده، يعتريه الصدأ، وتعلوه الأتربة، ننفض بعضها بين حين وأخر وما تلبث أن تعود.

هاني شكر الله عضو مجلس تحرير جريدة الشروق ، و المدير التنفيذي لمؤسسة هيكل للصحافة العربية ، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة الأهرام ويكلي ، كما أنه عضو مؤسس للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وعضو مؤسس وعضو مجلس إدارة المركز العربي الأفريقي للأبحاث.
التعليقات