«التابع» وعقدة «الأجنبى» - امال قرامى - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«التابع» وعقدة «الأجنبى»

نشر فى : الثلاثاء 15 أبريل 2014 - 7:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 15 أبريل 2014 - 7:05 ص

جذبت الثورات العربية جحافل من الدارسين: رجالا ونساء شدوا الرحال بحثا عن غنم معرفى. لم يفوتوا الفرصة، فمنذ الأسابيع الأولى، اختاروا مجال الدراسة، وحددوا المجال الجغرافى، وضبطوا المدة الزمنية المخصصة للبحث، وأخضعوا البلدان والفاعلين للتمحيص والتفكيك. فكان «الآخر» كالعادة، موضوعا يُغرى الدارسين الغربيين باختبار الفرضيات، واستنتاج الخلاصات، وإضفاء المعانى على ما يحدث.

لقد ظل الغرب مذهولا ولكن فيلق البحاثة سرعان ما تجاوزوا وقع الصدمة، وراحوا ينبشون ليحققوا السبق المعرفى. فلئن كانت الشعوب الخاملة قد هبت من سباتها بلا زعامات ولا بدائل فإن الباحثين الغربيين قادرون بما لديهم من آليات للبحث، وأدوات للتفكيك، وإمكانات مادية، لتحقيق الكسب المعرفى.

•••

طرق بابنا، على مر السنوات الأخيرة، عدد ضخم من الدارسين من شتى أنحاء العالم. وما ضننا عليهم بالمعلومات والأخبار والتحاليل، منحناهم جزءا من وقتنا بالرغم من كثرة الأعباء التى فرضها علينا المسار الانتقالى، إيمانا منا بأن من واجب الأكاديميين والمثقفين والإعلاميين وغيرهم أن يساهموا فى إنارة الرأى العام، وتقديم يد العون لبحاثة شاءت التقاليد العلمية أن تجعلنا نرحب بهم، ونتفاعل مع أسئلة طرحوها وقضايا أثاروها.

ربطتنا بالدارسين علاقات مختلفة تتفاوت بتفاوت المهارات والكفاءات وتخضع لمعايير عدة كطبيعة الموضوع والاختصاص، والطرح والسن والموقع، والجنس، وغيرها. وشيئا فشيئا انتبهنا إلى الفرق بين وضعية الباحث المحلى أو «الجوانى» والباحث الأجنبى «البرانى» على مستوى تقبل الجمهور، ومدى تفاعل الأشخاص مع الدارسين.

فقد لفت انتباهنا مثلا مدى رحابة صدر العينات التى اختيرت للبحث وقدرتها على احتواء الباحثين. فكم من عائلات «سلفية» استضافت باحثات لمدة أيام، وخصتهم بكرم الضيافة، وشرحت وفصلت وباحت بالأسرار ومارست الحكى.. وتعجبنا كيف يتمنع السلفيون «أبناء جلدتنا» من الجلوس معنا على طاولة الحوار لغرض معرفى بدعوى أننا «بنو علمان» لا نؤتمن على أخبار ولا تجمعنا بهم صلات. وفى المقابل وجدناهم يرحبون بالأجانب أولئك الذين انتجت حولهم تمثلات اجتماعية ودينية ارتكزت فى المتخيل من قديم الزمان فإذا بالمواقع تتغير صاروا هم الخلان الأوفياء، وبتنا الأغراب والأعداء.

•••

نثير هذه المسألة لنبين العوائق التى تقف أمام فئة من الدارسين الذين ارتأوا استقراء الظواهر الجديدة الدخيلة على المجتمع التونسى، والإسهام، من موقعهم، فى تقديم بعض القراءات أو الإجابات. أما السبب الثانى الذى دفعنا إلى التطرق إلى هذه المسألة فإنه يكمن فى الوضعية المفروضة على عدد من الدارسات على وجه الخصوص، بحكم أنهن صرن سجينات أحكام مسبقة، وصور منمطة تجعلهن لا يستطعن العمل مباشرة مع المُستجوبين والمستجوبات بل إنهن مجبرات على اعتماد الوسيط، وهو الأجنبى الذى يقوم بالبحث الميدانى ثم «يمن» علينا ببعض الاستنتاجات وفى أفضل الحالات، صرنا نخضعه للمقايضة: «سلم تتسلم». ويكمن السبب الثالث فى كشف المستور فى ردود الفعل التى تصاحب معالجتنا لبعض المواضيع كجهاد النكاح مثلا. فكم من شخص شكك واستغرب، واتهم.. فى معلومات سقناها ولا علم له بأننا نتحفظ على مصادرنا بحكم التزام أخلاقى وعقد كان بيننا وعدد من البحاثة. فنحن مكرهون على عدم كشف هوية من استمعنا إلى شهاداتهم المسجلة وآخرها العائدون من بلاد الشام. فهؤلاء «المغرر بهم» التائبون، والباحثون عن حضن دافئ يحتويهم سردوا تفاصيل قد يقول البعض إن هى إلا أساطير وخرافات، ولكن نبرة الصدق تتضح من خلال أنات وأوجاع تخللت روايات امتزج فيها الواقع بالخيال.

«المغرر بهم» سيقوا قسرا إلى معركة «لا ناقة لهم فيها ولا جمل»، مهمشون، يعيشون الفقر والخصاصة يستدرجون إلى بنغازى بدعوى العمل، وهناك يواجهون بالإغراءات: أموال وسلطة، وموقع، ونساء من كل الملل والنحل. فأنى لمن عاش العوز والقهر والكبت ألا يتوق إلى «ليلة ليلاء» مع حور العين فى الأرض قبل السماء.

•••

حين يحصل الشقاق، وتتسع الفجوة بين أبناء الوطن، ويتفنن البعض فى صناعة الأعداء، تنتفى الثقة بين الجميع، ويصير الغريب أقرب إلى بعضهم من العشير. وفى مثل هذه الحالة يتحول الدارسون، رغما عنهم، إلى متحينين للفرص، عاقدين شتى الإيلافات مع الغربيين، مزودين بالمعلومات عن طريق «الآخر». وما دام الأهل يؤثرون الغريب على أبناء الوطن فليس من حل سوى إنتاج معرفة تمر حتما عبر الوسيط.

وهكذا تدور الدوائر: من قال إننا قد تحررنا من التبعية (سياسيا واقتصاديا ومعرفيا) ومن عقدة الأجنبى. قالها ابن خلدون يوما: «المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب»، وأثبتت دراسات التابع أن تشكيل معرفة حول الآخر يمر عبر التمركز على الذات.

التعليقات