دخلت الحرب الإسرائيلية الهمجية، غير المسبوقة فى وحشيتها، على غزة، شهرها السابع، وما يزال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو يبيع للشعب الإسرائيلى، وللعالم، وهْم ما يُسمَّى «الانتصار الساحق» على حماس، فى كل مؤتمر صحفى يعقده، وفى كل حديث صحفى يدلى به. حتى الآن، لم تحقق إسرائيل الهدفين الرئيسين، اللذين حددهما مجلس الحرب الإسرائيلى وهما؛ القضاء على حماس، واستعادة الأسرى. أمر وحيد فقط نجحت فيه إسرائيل هو، تدمير المنازل، والمستشفيات، والمساجد، والكنائس، والمدارس والجامعات، وقتل الأطفال والنساء، وقتل فرق الإغاثة، وموظفى الأونروا، وتشريد ملايين الغزاويين من بيوتهم، وجعل الحياة مستحيلة فى القطاع.
مسألة «الانتصار الحاسم» مسألة فيها نظر، وهى ليست أكثر من شعار أجوف كما تقول، طال شاليف، فى معاريف، بعد سحب الفرقة 98 من خان يونس: «مع اكتمال خروج معظم القوات المحاربة من غزة هذا الأسبوع، فرغت شعارات الانتصار المطلق من محتواها. إنه أكثر من فشل مطلق للدولة فى توفير الحماية والأمن لمواطنيها. مع الانسحاب من خان يونس، انتهت الحرب وانتقلت إلى مرحلة القتال، لكن نتنياهو يواصل بهمة إطلاق الوعود بالقيام بعملية عسكرية فى رفح، من أجل إرضاء قاعدته الانتخابية وطمأنة حكومته اليمينية الخالصة».
ما معنى الانتصار الساحق؟ الأمر يتوقف، بالطبع، على تحديد المعايير الحاكمة، إذ إن الحرب، فى نهاية الأمر، مجرد وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، كما أن المنتصر فى الحرب لا يعنى، بالضرورة، كما يقول البروفيسور، يوفال نواح هرارى، فى يديعوت أحرونوت: «من يقتل عددا أكبر من الأشخاص، ويأسر عددا أكبر، ويدمر بيوتا أكثر، أو يحتل مناطق أكثر، وإنما المنتصر هو الطرف الذى يحقق أهدافه السياسية». يدلل هرارى على صحة فرضيته بمثال الحرب التى شنتها قوات التحالف، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على العراق عام 2003م، مشيرا إلى أن «الأمريكيين انتصروا فى كل المعارك، واحتلوا الدولة كلها، وألقوا القبض على صدام حسين، وفككوا نظامه تفكيكا تاما، لكن الحرب انتهت بهزيمة سياسية ساحقة للولايات المتحدة الأمريكية، وبتحويل إيران إلى صاحبة بيت فى العراق وإلى أقوى دولة فى الشرق الأوسط».
الأمر نفسه ينطبق على كل الحروب السابقة، التى شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطينى بعامة، وعلى غزة بخاصة، إذ لم يتحقق الهدف السياسى الإسرائيلى من وراء كل هذه الحروب: لم يختف الشعب الفلسطينى، ولم تمت القضية الفلسطينية، ولم تفتر عزيمة حماس فى مقاومة إسرائيل. العكس هو الصحيح. فقد اكتسبت القضية الفلسطينية، بعد هذه الحرب البشعة على غزة، زخما لا أظن أنها اكتسبته من قبل، وازداد الوعى العالمى بعدالتها، وبضرورة إقامة دولة للفلسطينيين والفلسطينيات، حتى إن دولا أوروبية عديدة تجاهر الآن بأنها ستعترف بدولة فلسطينية مستقلة.
إذا أخذنا بتعريف هرارى لمعنى الانتصار، فإن السؤال الذى يطرح نفسه هو: من الأقرب إلى تحقيق أهدافه السياسية فى هذه الحرب؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال، يجب، أولا، أن نعرف ما الأهداف السياسية للطرفين. أهداف حماس واضحة للغاية. على المدى الفورى، كان هدف حماس لفت الأنظار إلى الاستفزازات اليهودية المتصاعدة تجاه الحرم القدسى الشريف، والرغبة الواضحة فى فرض تقسيم زمانى ومكانى له على غرار النموذج المطبق فى الحرم الإبراهيمى بالخليل، طبقا لملحق الخليل باتفاقيات أوسلو عام 1998م (جرت فى الفترة التى سبقت هجوم السابع من أكتوبر أكثر من 55 ألف حالة انتهاك للحرم القدسى الشريف، بحسب بيانات إسرائيلية، ناهينا عن خطط معلنة وجاهزة لإقامة هيكل ثالث تتبناها جماعات يهودية متطرفة)، وأغلب الظن أن الحرب قد جمَّدت، مؤقتا، على الأقل، خطط الجماعات اليهودية فى هذا الشأن.
من بين أهداف هجوم حماس فى السابع من أكتوبر، قطع الطريق على اتفاق التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، الذى جرى الحديث عن قرب التوصل إليه، برعاية أمريكية، قبل الحرب بأسابيع قليلة، وكان من شأنه أن يغير كثيرا من المعادلات فى المنطقة، ويضر بالقضية الفلسطينية ضررا بالغا، ويفتح الطريق أمام كثير من الدول العربية والإسلامية لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وقد أوقفت حماس هذا المسار، وضمنت، على المدى المنظور، على الأقل، ألا يكون هناك تطبيع بين إسرائيل والعالم العربى.
قبل السابع من أكتوبر، كان هناك انطباعٌ بأن إسرائيل توشك أن تكون دولة طبيعية فى المنطقة، خاصة بعد توقيع ما يسمى باتفاقيات أفراهام" مع الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والمغرب، والسودان، لكنها تحولت، بعد الحرب، إلى دولة منبوذة حتى من قبل بعض أصدقائها الأوروبيين بعد انكشاف وجهها الحقيقى خلال الحرب. كان ثمة انطباعٌ، قبل الحرب، بأنها قوة إقليمية كبرى، يمكن الاعتماد عليها وقت الحاجة، وأنها تمتلك قدرات استخبارية فذة، لكن مباغتة حماس لها فى عقر دارها نسفت هذا الانطباع جملة وتفصيلا، وعرَّت الصورة المتوهمة التى رسمتها الآلة الإعلامية للجيش وبعض المحللين العسكريين. كان هناك تعمد، كما يقول اللواء احتياط، يتسحاق بريك فى معاريف، لرسم صورة للجيش على غير الحقيقة: «ضلل معظم المراسلين والمحللين العسكريين فى القنوات التلفزيونية، وفى الراديو والصحف (باستثناء قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة) الناس قبل الحرب وأوهموهم بوجود جيش قوى وعدو مرتدع، وخدموا الناطق باسم الجيش برسمهم صورا مفبركة للجيش على حساب المواطنين الإسرائيليين. ثم عادوا لسيرتهم الأولى، وظلوا يزيفون وعى الناس خلال الحرب حين تحدثوا عن جيش أعاد ترميم نفسه خلال أسبوعين من بداية الضربة التى تلقاها فى السابع من أكتوبر2023م، وعن أنه فى الطريق إلى (القضاء على حماس قضاء مبرما)».
يضع بريك يده على الخلل البنيوى للجيش الإسرائيلى بقوله: «ترك الجيش كل مواقعه فى قطاع غزة وأعاد قواته إلى إسرائيل بسبب نقص فائض القوة البرية بعد التقليص العميق والعنيف لوحدات الجيش فى السنوات الأخيرة، الذى بسببه، يستحيل الآن استبدال القوات التى سبق وحاربت بضعة أشهر فى قطاع غزة ولابد من إخراجها حتى وإن لم تكن هناك قوات نشيطة بدلا منها». المعنى، نفسه، يؤكده، يوسى هدار، فى معاريف: «انسحبت إسرائيل من غزة تجر أذيال الخيبة. بدون إنجازات، بدون تحقيق الأمن، بدون أفق، بدون ترميم الردع والأهم بدون إعادة المخطوفين». من ناحية أخرى، نجحت حماس فى تحريك المقاومة الفلسطينية فى الضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث ازدادت عمليات المقاومة المسلحة بعد الحرب، وربما تجر الحرب إسرائيل إلى حرب إقليمية شاملة ستكون عواقبها عليها وخيمة.
يلخص البروفيسور، هرارى، الأهداف التى نجحت حماس فى تحقيقها بقوله: «حماس قريبة جدا من تحقيق نصر فيما يتعلق بمنع التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والسعودية، وتدمير كل فرصة لسلام فى المستقبل وتطبيع بين اليهود والعرب، بل إنها حققت فوق ما كانت تأمل بكثير». من بين الأهداف السياسية غير المباشرة، التى لم تكن فى حسبان حماس، لكن فرضها ارتكاب إسرائيل لعمليات ترقى إلى جرائم الحرب والإبادة الجماعية الممنهجة، هو الانقلاب فى الرأى العام العالمى ضد إسرائيل، وخروج مظاهرات أسبوعية حاشدة منددة بأفعالها فى العواصم الأوروبية الكبرى، وتدنى وضعها الدولى بشكل غير مسبوق.
إذا كانت حماس حققت من خلال الحرب بعض أهدافها السياسية، فماذا إذا، عن الأهداف التى حققتها إسرائيل؟ وهل لدى إسرائيل، حقا، أهدافٌ سياسية من وراء هذه الحرب. الانطباع السائد، أو الواقع يقول، طبقا لكثير من المحللين الإسرائيليين، إن إسرائيل ليس لديها خطة لليوم التالى للحرب، وإن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لم يشر قط، فى أى خطاب من عديد الخطب التى ألقاها منذ بداية الحرب، إلى أهدافه السياسية من وراء هذه الحرب، ويبدو أن هدفه السياسى الوحيد هو التشبث بكرسى الحكم وتأجيل اليوم التالى إلى ما لا نهاية. يقول البروفيسور، هراري، فى هذه الجزئية: «تدير حكومة بنيامين نتنياهو الحرب بدون تحديد للأهداف السياسية. إذ إنها تقول إن الهدف هو القضاء على حماس، ولكن حتى إذا نجحت إسرائيل فى نزع سلاح حماس فإن هذا إنجاز عسكرى وليس هدفا سياسيا»، ويتساءل: «هل لدى إسرائيل خطة ممنهجة توضح كيف تؤدى هزيمة حماس إلى إنقاذ اتفاقية السلام مع السعودية، وإلى تحقيق تسوية دائمة فى غزة، وإلى ترميم وضعنا الدولى، أو إلى أى هدف سياسى آخر مأمول؟».
ثمة توافق بين كثير من المحللين الإسرائيليين على أن شعار «الانتصار الساحق»، الذى يردده نتنياهو صباح مساء، شعار أجوف، فارغ من كل معنى، وعلى أن الرجل، نفسه، هو المشكلة وليس الحل، وعلى أن همه الأكبر هو إطالة أمد الحرب، كى يبقى سياسيا، ولذا، تكاثرت الأصوات التى تطالب بتنحيته، واختيار زعامة جديدة، وتراه غير جدير بالزعامة، منها رئيس جهاز الشاباك ـ الأمن العام ـ السابق، ناداف أرجمان، الذى قال فى مقابلة تليفزيونية «إن نتنياهو لا يصلح لقيادة إسرائيل، ويقودها إلى التهلكة»، ومنها، يوسى هدار فى معاريف: «تستحق إسرائيل زعامة أخرى، جديدة، زعامة تعيد إليها الأمن، وتستعيد الردع. زعامة تخرجها من حالة السوداوية التى غرقت فيها».
أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة