فينيسيا - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 9:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فينيسيا

نشر فى : الإثنين 16 فبراير 2009 - 3:23 م | آخر تحديث : الإثنين 16 فبراير 2009 - 3:23 م

 طالعتني فينيسيا بمجرد هبوطي في المطار بوجه خرج توا من لوحة تشكيلية رسمها الحاج دافنشي في القرن الخامس عشر. كان يرتدي حلة حائلة اللون ببابيون بلون النبيذ وحذاء بني اللون بدا لي أنه تم دباغته في القرن الرابع عشر، قصير وأصلع أما لحيته الحمراء فكانت تنتصب إلى الأمام وليست منسدلة إلى أسفل على عكس عادة اللحى متحدية الجاذبية الأرضية بجبروت عرفت أنه من طبيعة تلك المدينة الساحرة التي تحدت البحر وانتصرت عليه بالضربة القاضية الفنية فشر محمد علي كلاي.

اكتشفت بمجرد ولوجي لعالم البندقية أنه ليس غريبا وجه هذا المعماري ولا لحيته القرمزية الأفقية، فتلك المدينة تطل عليك بوجه ما زال يعيش في عصر النهضة، المحال تبيع أقنعة وملابس عصر ميكيافيلي وأقلام من ريش ملون من النوع الذي كتبت به الكوميديا الإلهية لدانتي، جذبتني أقنعة تنير الفترينات على شكل الشمس والقمر بألوان صفراء وبيضاء لامعة وجدتها مساء على وجوه شباب يسيرون نصف سكارى في حواري فينيسيا. الأبنية تاريخية ما زالت تحتفظ بعبق القرون الماضية بلمسة ملونة فنية مبهجة، هذا الشعور أنك تعيش عصرا انقضي يتأكد من عدم وجود سيارة أو دراجة بخارية واحدة في تلك المدينة، وأندهش الآن أنني حتى لم ألحظ دراجة واحدة، أما المراكب فيغلب على محياها أيضا الطابع القديم بخشبها الأكاجو المميز. وحتى غرفة الفندق التي نزلت به كانت كل محتوياتها تخرج من عباءة قرون غابرة.

بدأت يومي لاكتشاف البندقية مبكرا، خرجت بكل همة في اتجاه ساحة سان ماركو حيث الكنيسة الأشهر وقالوا لي اتبع العلامات وسوف تصل في أمان الله. سرت في شوارع ضيقة ذكرتني بزنقة الستات في الإسكندرية مع اختلاف واضح بالتأكيد في صنف الستات. تنسمت بهن هواء عليلا وأدركت حينها أن صباحات الهوى في البندقية أجمل من ليالي العشق في فيينا. كانت الشوارع الضيقة غير المستقيمة تنتهي دائما بكوبري خشبي يمر فوق قناة ضيقة أو بساحة واسعة تتوسطها في العموم كنيسة جميلة. وأمام بوابة الكنيسة تجد دائماً بائع الجيلاتي.

ما تلك الأعداد الكبيرة من محال بيع الآيس كريم ولا كأنك في جليم؟ لم أفهم ولكنني قمت بما هو أهم من الفهم فقد التهمت كل ألوانها التي تعدت درجات قوس قزح. ثم توجهت إلى موقف حافلة للذهاب إلى سان ماركو، وكما هو مفهوم فهي عبارة عن مركب على شكل أتوبيس. وفي الطريق فوجئت أنني شبه محاصر بالمياه وليس أمامي غير التقهقر للخلف، سجادة من المياه ترتفع قرابة الخمسة عشر سنتيمترات، نظرت حولي فوجدت أن الجميع على حين غرة يرتدون أحذية مطاطية عالية شبيهة بأحذية رجال المطافي، كيف نبتت في أرجلهم بتلك السرعة وكانوا يرتدون منذ دقائق أحذية عادية؟ سألت إمرأة بدت كمديرة بنك بالتايير الشانيل الرمادي التي ترتديه، ضحكت قائلة: "نحن نولد بها.. فتلك الأحذية مثبتة في أرحام أمهاتنا البندقيات". وما الحل؟ اشترى من بائع التبغ حذاء من البلاستيك، فهو مخصص لسائح بائس مثلي لا يمتلك زعانف. ارتديته وخضت غمار البحر لمدة دقائق ثم اختفت السجادة المالحة مرة أخرى.

حركة مد ثم جزر ثم مد بلا توقف، شوارع بممرات خشبية علوية شبيهة بسقالات البناء للسير عليها في حالة الغرق، محلات بلا سجاجيد مستعدة لاستقبال فيض المياه في أي وقت. حملت حذائي البلاستيكي الجديد وقررت البحث عن جسر التنهدات الشهير. شاهدته في السينما أكثر من مرة. فقد راودت فينيسيا عقول العديد من الكتاب، أشهرهم شكسبير في تاجر البندقية وتوماس مان في الموت في فينسيا وارنست همنجواي في ما بعد النهر وتحت الشجر ، أما كتاب السيناريو الذين كتبوا عن تلك المدينة فعددهم أكثر من الليمون في عز الشتاء. وقعت أنا في غرام جسر ريالتو وهو أشهر جسور البندقية، ويعود غرامي على الأغلب إلى أنه ذكرني بكل الأفلام التي شاهدتها في سينما ريالتو بالإسكندرية عبر حياتي. عمارة هذا الجسر مختلفة تماما عن الجسور التي أعرفها فهو كعادة الجسور هناك كقوس الحاجب المرتفع دهشة من جمال الجندول الأسمر الذي يمر تحته، ولكنه في ريالتو عبارة عن جسد مبنى تتخلله المحلات من الجانبين وسلم آخر خلف صف تلك المحلات لرؤية القنال من الجانبين.

الخط الفاصل بين العمارة في البندقية وبين أرقى معاني الفن يكاد يكون غير مرئي. عمارة تتحدى البحر ولكن بأنوثة متفجرة. حين وصلت أخيرا إلى الساحة الكبيرة لسان ماركو اشتريت مهرج من زجاج المورانو الملون وهو أحد الابتكارات العبقرية لمدينة فينيسيا وبوستر لاحدى لوحات "فرانشسكو جاردي" 1712-1793 واحد من أبناء البندقية ثم اشتريت خريطة تمنعني من سوء المصير فاكتشفت أن المدينة على شكل سمكة، اندهشت وفهمت.

خالد الخميسي  كاتب مصري