ثقل التاريخ - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثقل التاريخ

نشر فى : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 11:00 م | آخر تحديث : الجمعة 16 نوفمبر 2018 - 11:00 م

أكتب هذه الكلمات من مكتبة معهد ماكس ــ بلانك لدراسات القانون الخاص المقارن والدولى، والكائن بمدينة هامبورج فى الشمال الألمانى. مشكورة، سمحت لى إدارة المعهد بالبحث فى الأعداد الكاملة للجريدة الرسمية والوقائع المصرية وأحكام محكمة النقض خلال الفترة الممتدة من ثورة يناير ٢٠١١ وإلى عامنا الحالى وقاربت بذلك بينى وبين الانتهاء من دراسة أعدها عن القانون وإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة فى مصر اليوم. فى عموم ألمانيا، يمتلك معهد ماكس ــ بلانك الأرشيف الأكثر اكتمالا لتوثيق أعمال الدولة (الجريدة الرسمية والوقائع المصرية) وقضاء النقض وأحكام المحاكم منذ ثلاثينيات القرن العشرين.
وفى قبو المكتبة، تحديدا فى الدور الثانى تحت الأرض، صارت المجلدات الأنيقة «للإصدارات المصرية» (كما أطلقت عليها مديرة المكتبة السيدة ايلكا هالسن ــ رافل) بساطا سحريا تجاوز حدود الجغرافيا والزمن وأعادنى إلى عمق ماضى وحاضر الوطن. إنى لأجد ريح مصر لولا أن تفندون، رددتها فى سرى مستعيرا التعبير القرآنى الجميل فى سورة يوسف (الآية رقم ٩٤) وشرعت فى المطالعة.
«وزارة الحقانية، المجموعة الرسمية للمحاكم الأهلية، السنة الثالثة والثلاثون، ١٩٣٢»، هذا المجلد هو الأقدم بين «الإصدارات المصرية» وعلى صفحاته التى تحوى بجانب أحكام محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية أحكام دوائر محكمة النقض للعام القضائى ١٩٣١ــ١٩٣٢ تبدت أحوال الناس وخلافاتهم وأخطاؤهم ودور المحاكم فى تنظيم العيش المشترك وإنزال العقاب بالخارجين على القانون. على صفحات مجلد السنة الثالثة والثلاثين، شاهدت مصر الحقبة الليبرالية (١٩٢٣ــ١٩٥٢) التى نهض بها القضاء والقضاة ومعهم من جهة المشرع البرلمانى ومن جهة أخرى المحامون وبهمة عظيمة للتوسع فى ضمانات صون حقوق وحريات المواطن ولتحديث النظم القانونية وتوحيد مبادئ تطبيقها الذى تجرى عليه المحاكم المستقلة والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية.
على سبيل المثال، قضت محكمة النقض فى ٣١ مارس ١٩٣٢بأنه «لا محل للقول بتحريم سماع شهادة من يتقدم من تلقاء نفسه إلى ساحة المحكمة طالبا سماع شهادته بعلة أن مثل هذا الشاهد مريب، فأنه إذا صح أن من يحضرون من تلقاء أنفسهم طالبين سماع شهادتهم يكونون مندفعين بعامل التحيز لمصلحة المتهم أو المجنى عليه فإنه يصح أيضا أنهم يكونون مندفعين بدافع إحقاق الحق فى ذاته، ومن الخطر تحريم سماعهم على المحكمة وقصر الرخصة الواردة بالمادة ٤٦ من قانون تشكيل محاكم الجنايات على الصورة التى ترى فيها المحكمة من تلقاء نفسها استدعاء شاهد ما بدون طلب من هذا الشاهد». وفى ٦ يونيو ١٩٣٢، رفضت محكمة استئناف مصر أن تغتصب الحكومة حقوق المواطنين وقضت أنه «إذا استولت الحكومة على عقار من غير أن تتخذ الإجراءات الخاصة بنزع الملكية وقاضاها واضع اليد مطالبا بثمنه وتعويضه، فليس لها أن تطلب تكليفه بإثبات ملكيته للعقار أو إثبات خلوه من الحقوق العينية للغير، لأنه واضع يده عليه بصفته مالكا لا ينازعه فيه منازع، فهو مالك وعلى المغتصب إقامة الدليل على عكسه، كما عليه عبء إثبات وجود حقوق عينية على العقار».
***
على صفحات مجلد السنة الخمسين الذى يحوى «المجموعة الرسمية لأحكام المحاكم» للعام القضائى ١٩٤٨ــ ١٩٤٩، واصلت رحلة العودة إلى عمق الماضى محمولا على البساط السحرى لقضاء النقض ومجمل أعمال المحاكم. قرأت أن الدائرة الجنائية لمحكمة النقض قررت أن «الإذن من النيابة بالتفتيش لا يخول القبض إلا فى حالة عدم الإذعان أو المقاومة» (١١ أكتوبر ١٩٤٨). وقضت أن «سبق الإصرار حالة ذهنية تقوم بنفس الجانى فلا يستطيع أحد أن يشهد بها مباشرة وإنما تستفاد من وقائع خارجية يستخلصها القاضى منها استخلاصا، فقول المحكمة إن الشهود شهدوا بسبق الإصرار لا يجدى فى إثباته» (١٥ نوفمبر ١٩٤٩). وفيما خص تنظيم التعاملات العقدية والتجارية بين الناس، ارتأت محكمة استئناف القاهرة أن «القوة القاهرة والحادث الفجائى هو الأمر الذى لم يكن ممكنا توقعه ومن شأنه أن يجعل الوفاء بالتعهد مستحيلا، فمتى ثبت أن عدم وفاء المتعهد كان لسبب خارج عن إرادته ونتيجة حادث لم يكن فى إمكانه توقعه ولا تلافيه فلا تجوز مساءلته لعدم تنفيذ العقد ومن حقه أن يعتبر هذا العقد مفسوخا وغير ملزم له وأن يسترد ما دفعه للعاقد الآخر من التأمينات» (٢٨ مارس ١٩٤٨).
***
ثم كان أن نقلتنى «الإصدارات المصرية» من الحقبة الليبرالية إلى عقود ما بعد ٢٣ يوليو ١٩٥٢ بتقلباتها الكثيرة. ابتعدت عن سنوات الأحداث الجسام (١٩٥٤، ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٠، ١٩٧٣، ١٩٧٧، ١٩٨١، ١٩٨٦، ١٩٩٠، ٢٠٠٥، ٢٠١١)، وانتقيت عشوائيا من مجلدات السنوات الأخرى محاولا تقصى دور القضاء فى صون حقوق وحريات الناس وتنظيم العيش المشترك والرقابة على السلطة التنفيذية فى ظل أوضاع سياسية اختلفت جذريا عما كان عليه الحال قبل ١٩٥٢. وفرضت حقيقة أن مكتبة معهد ماكس ــ بلانك توقفت فى ستينيات القرن العشرين عن اقتناء المجلدات السنوية لدوائر محكمة النقض المختلفة واقتصرت على مجلدات الدائرة المدنية والتجارية ودائرة الأحوال الشخصية مستبعدة الدائرة الجنائية، فرضت تلك الحقيقة قيودها حيث غابت القضايا (الطعون) ذات الارتباط الصريح إن بالحقوق السياسية والحريات المدنية أو بالرقابة المباشرة على أعمال السلطة التنفيذية فى المجال السياسى عن سياق مطالعتى. غير أن ما انتقيت عشوائيا من مجلدات الدوائر غير الجنائية لمحكمة النقض كان به من الأحكام ما أظهر لى بوضوح مواكبة المحاكم للتقلبات المجتمعية وحرص القضاة على استقرار نظم التقاضى والحفاظ على قوة التقاليد القانونية فى وجه سلطة تنفيذية متغولة تنزع للانتقاص من حقوق وحريات المواطن.
فى ١٩٦٢، وفى أمر شائك آنذاك هو نزع ملكية غير المصريين، قررت محكمة النقض وجوب «الاستهداء» بما استقر عليه قضاء المحاكم المختلطة من إجراءات قبل أن يلغى النظام القضائى المختلط فى ١٥ أكتوبر ١٩٤٩ (٣١ مايو ١٩٦٢). وفيما خص نزع الملكية الخاصة للمصريين والذى كانت السلطة التنفيذية تتوسع بممارسته فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين ولأسباب متنوعة، قضت المحكمة بكون «الاستيلاء الفعلى من الحكومة على أرض وإدخالها فى الطريق العام كاف بذاته للمطالبة بالتعويض عن ذلك ولو لم يصدر مرسوم بنزع الملكية» (١٥ نوفمبر ١٩٦٢). وعندما تبدلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى مصر السبعينيات وأضرت بعض سياسات ما سمى «الانفتاح» بالعمال وحقوقهم، عمل قضاء النقض على صون تلك الحقوق والانتصار لها. فى ١٩٧٥، أقرت المحكمة حق «العامل المؤمن عليه فى الجمع بين المعاش المستحق له عن مدة عمله فى الحكومة والمعاش المستحق له طبقا لقانون التأمينات الاجتماعية» (٤ يناير ١٩٧٥). كما قضت المحكمة بالنسبة للعاملين بشركات القطاع العام بوجوب احترام «الأحكام النهائية الصادرة من المحاكم فى خصوص سريان لائحة نظام موظفى وعمال الشركات الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم ١٥٩٨ لسنة ١٩٦١ فيما يتعلق بتقرير الحد الأدنى للأجور» (٨ فبراير ١٩٧٥).
***
وحين جاءت الثمانينيات بأزمات مجتمعية جديدة كان تفعيل الحق الدستورى للمواطن فى السكن الملائم من بينها، أصدر قضاء النقض العديد من الأحكام التى ذهبت إلى صون حقوق الطرف الأضعف فى العلاقات الإيجارية. هكذا، حكمت المحكمة فى ١٩٨٧ بعدم جواز «إخلاء المستأجر لاستعماله العين بطريقة تخالف شروط الإيجار المعقولة وتضر بمصلحة المؤجر ووجوب إعذاره بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل نشوء المخالفة» (٦ أكتوبر ١٩٨٧). وامتد الاهتمام بتنظيم العلاقات الإيجارية إلى التسعينيات، وبها قضت محكمة النقض بكون تنفيذ حكم مستعجل بطرد المستأجر جبرا عنه من العين المؤجرة لتأخره فى سداد الأجرة، لا يلغى حق محكمة الموضوع فى إعادة المستأجر إلى العين بعد وفائه بالأجرة المستحقة والمصاريف والنفقات الفعلية، «علة ذلك أن الحكم الصادر من القضاء المستعجل لا يقيد القضاء المدنى» (١٧ يناير ١٩٩٣). وفى العقدين الممتدين بين التسعينيات و٢٠١١، اهتم قضاء النقض بالدفاع عن حقوق الفئات الأضعف فى المجتمع كالعمال والنساء وبحماية مجمل الحق العام. فيما خص علاقات العمل، قررت المحكمة أن «اللجوء إلى هيئة التأمين الصحى أو المجالس الطبية لتقدير نسبة العجز الكامل والمستديم (للعامل) لا يحول دون اللجوء للقضاء لتحديد نسبة العجز وللمحكمة أن تستند إلى تقرير الجهة الطبية التى تراها» (٨ فبراير ١٩٩٣). وفى الأحوال الشخصية، قضت أن «سقوط حق الزوجة فى طلب التطليق لزواج زوجها بأخرى شرطه مضى سنة من تاريخ علمها به أو رضائها به صراحة أو ضمنا» (١٦ فبراير ١٩٩٣). ومع اتجاه حكومات ما قبل ٢٠١١ إلى بيع بعض الأصول والشركات المملوكة للدولة والغموض الذى كثيرا ما أحاط بإجراءات البيع (تقييما وتنفيذا وشفافية)، أقرت المحكمة أن «أموال هيئات القطاع العام وشركاته من الأموال المملوكة للدولة ملكية خاصة شريطة عدم وجود نص يقضى بخلاف ذلك» (٨ يناير ٢٠٠٩).
***
وعاد استقرار نظم التقاضى ليشغل حيزا واسعا فى قضاء النقض بعد ثورة يناير ٢٠١١، شأنه فى ذلك شأن صون الحقوق. فى تواريخ متتالية، أصدرت المحكمة أحكاما تنص على «أن الشروط اللازمة لتعيين العامل فى وظائف القطاع العام» هى قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها، وأن «المصالحة على عقد العمل التى تتضمن انتقاصا أو إبراء من حقوق العامل الناشئة عن عقد العمل خلال مدة سريانه أو ثلاثة أشهر من انتهائه باطلة لكونها تخالف قانون العمل»، وأن «للمواطن الحق فى التقاضى أمام القضاء العادى» وأمام القضاء الإدارى حال قيام الحكومة بنزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة (صدرت تلك الأحكام بين إبريل ٢٠١١ ويوليو ٢٠١٢).
فى يومى الرابع والأخير بالقبو وعقارب الساعة فى هامبورج تقترب من موعد إغلاق المكتبة وبينما البساط السحرى «للإصدارات المصرية» يواصل تجاوز حدود الجغرافيا والزمن ويقربنى تارة من ماضى وتارة أخرى من حاضر الوطن، أيقنت أن دراسة للعلاقة الراهنة بين المواطن والمجتمع والدولة فى مصر محكوم عليها بالسطحية ما لم يكن التاريخ هو نقطة انطلاقها. حقوق وحريات المواطن، قضايا المجتمع وأزماته وتحدياته الكبرى، أدوار السلطة القضائية، أعمال السلطة التنفيذية، القوانين وتعديلاتها ووضعية السلطة التشريعية؛ جميع تلك الأمور تستعصى على الفهم الجاد إذا لم ينظر لها فى مسارات تطورها التاريخى. للتاريخ باستمراريته وتقلباته وانقطاعاته ثقل كبير فى بر مصر، ثقل تحتضنه الذاكرة الجماعية للناس وتختزنه تقاليد المؤسسات العامة مثلما يوثقه أرشيف أعمال الدولة ومجلدات أحكام المحاكم.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات