بين الحربين.. الحكاية الأخرى لتقدم الأوروبيين - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الحربين.. الحكاية الأخرى لتقدم الأوروبيين

نشر فى : الجمعة 17 فبراير 2023 - 7:50 م | آخر تحديث : الجمعة 17 فبراير 2023 - 7:50 م
كانت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ ــ ١٩١٨)، وليس الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ ــ ١٩٤٥)، هى بداية النهاية لهيمنة أوروبا على العالم. بين القرن السادس عشر والقرن العشرين، كرست إمبراطوريات وممالك القارة العجوز سيطرتها على خطوط التجارة والملاحة وتفوقت علميا وعسكريا وصناعيا، وتوسعت فى الاستعمار الاستيطانى للعالم الجديد (فى أمريكا الشمالية والجنوبية تحديدا وبما ارتبط به من تورط مفزع فى جرائم إبادة للسكان الأصليين وتوسع مشين فى تجارة العبيد)، ثم اقتسمت العالم القديم بينها محيلة بلدانه إما إلى مستعمرات أو محميات أو مناطق نفوذ (مؤتمر برلين ١٨٨٤).
حين اشتعلت الحرب فى أعقاب اغتيال ولى عهد الإمبراطورية النمساوية ــ المجرية الأمير فرانس فرديناند وزوجته فى مدينة سراييفو فى ٢٨ يونيو ١٩١٤، وانهار السلام الهش بين القوى الأوروبية وتشكل سريعا طرفان متحاربان بعد أن أعلنت النمسا ــ المجر الحرب على صربيا وتحالف مع الأولى ألمانيا والإمبراطورية العثمانية ودافعت عن الثانية الإمبراطورية الروسية ومعها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ثم الولايات المتحدة الأمريكية؛ حين حدث ذلك لم يكن أكثر المتشائمين بين صفوف النخب العسكرية والسياسية والدبلوماسية والصناعية فى القارة العجوز ليتوقع أن تستمر الحرب لسنوات، أو لينتظر كل تلك الدماء التى أسالتها (معركة نهر السوم ١٩١٦) وذاك الدمار الذى أحدثته (عديد المدن البلجيكية والفرنسية)، أو ليتصور التطور المرعب لأسلحة القتل الشامل (سلاح الغواصات الألمانية) والفتك الوحشى عن بعد (الغازات الكيماوية السامة التى استخدمتها كافة الأطراف المتحاربة).
لم تكن الحرب العالمية الأولى سوى كارثة غير مسبوقة حلت بالشعوب الأوروبية التى عانت الأمرين إلى أن توقفت المعارك، وحاوطتها، ما أن أسكتت الحكومات أسلحة الجيوش وعاد الجنود إلى بلادهم، التناقضات المجتمعية (بين أسلحة الدمار الشامل والتقدم العلمى)، والاضطرابات السياسية (انهيار الإمبراطورية الألمانية بعد الهزيمة فى الحرب وقيام جمهورية فيمار فى ١٩١٩ بعد انتفاضات عمالية وشعبية عنيفة)، والأزمات الاقتصادية (التطور الصناعى الكاسح بعد الحرب وما رتبه من فجوات عميقة بين من معهم وبين الفقراء والمهمشين). ما أن وضعت الحرب أوزارها فى ١١ نوفمبر ١٩١٨، وشرعت النخب السياسية فى الدول المنتصرة فى فرض إرادتها على المنهزمين الذين إما أزيلت دولهم من على خريطة العالم كما حدث مع الإمبراطورية النمساوية ــ المجرية والإمبراطورية العثمانية أو اقتطعت من أراضيها مساحات شاسعة وفرض عليها دفع تعويضات هائلة وقبول اشتراطات مهينة لمشاعر شعبها القومية كما حدث مع ألمانيا فى مؤتمر باريس للسلام ١٩١٩ ومعاهدات السلام بفرساى ١٩١٩، إلا وانشغل عديد العلماء والمفكرين والمثقفين والمؤرخين فى أوروبا بالبحث فى أسباب اشتعال الحرب الكبرى وأمدها الذى لم يتوقعه أحد والتفكير فى نتائجها فيما خص واقع ومستقبل القارة العجوز التى أضحى نموذجها للتقدم محل شكوك واسعة وسيطرتها العالمية فى طور التراجع.
• • •
بين الحربين، حضرت التفسيرات الأحادية التى حملت الإمبراطورية الألمانية بمفردها مسئولية تفجير «برميل البارود الأوروبى» فى ١٩١٤، وبررت بذلك من جهة لإذلال الألمان من خلال اجتزاء إقليم بلادهم وإجبارهم على دفع تعويضات لم يكن اقتصادهم ليقدر عليها وتبنت من جهة أخرى تقطيع أوصال حلفائهم فى النمسا ــ المجر والإمبراطورية العثمانية. راجت تلك التفسيرات، خاصة فى العشرينيات، بين المفكرين والمؤرخين البريطانيين والفرنسيين ووظفت سياسيا من قبل حكومات البلدين المنتصرتين لتمرير معاقبة ألمانيا كحل وحيد للحد من عسكريتها العنيفة ومن نزوعها للتوسع الاستعمارى داخل أوروبا، وللادعاء بكون «لجم الألمان« هو الشرط الأهم لحماية القارة العجوز من تجدد الحروب الكبرى. غير أن تلك التفسيرات الأحادية، والتى تولت مهمة تفنيدها أحداث الثلاثينيات والأربعينيات والحرب العالمية الثانية التى أشعلها الحكم النازى فى ألمانيا وأغرق بها أوروبا والعالم مجددا فى الدماء والدمار والإبادة والقتل الشامل، لم تكن الوحيدة المتداولة بين الحربين.
فقد ذهب كثيرون من مفكرى ومؤرخى البلدان المهزومة فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، وكذلك بعض المنتمين للنخب الفكرية والثقافية فى الولايات المتحدة وفى مستعمرات ومحميات آسيا وأفريقيا الساعية آنذاك إلى الانعتاق من استعمار «الرجل الأبيض» وإلى تقرير المصير بعيدا عن جيوش وأساطيل وحروب الأوروبيين؛ ذهبوا إلى الربط بين اشتعال الحرب العالمية الأولى وبين المقومات الأساسية التى مكنت القارة العجوز من التقدم والهيمنة على العالم بين القرن السادس عشر والقرن العشرين. مفكرون مثل أوسفالد شبنجلر وكارل لوفيت، وعنهما تحدثت فى مقال السبت الماضى، وكذلك كارل يونج (١٨٧٥ ــ ١٩٦١) الألمانى مثلهما والمؤرخ البريطانى أرنولد توينبى (١٨٨٩ ــ ١٩٧٥) ربطوا فى كتابات عديدة كانت بداياتها فى ثلاثينيات القرن العشرين بين تفجر برميل البارود فى ١٩١٤ وبين اندفاع الأوروبيين دون توقف نحو السيطرة المنفردة على خطوط التجارة والملاحة، نحو الاستعمار بمكونيه الاستيطانى (إبادة وإزاحة مجموعات سكانية من أراضيها الأصلية فى العالم القديم والجديد وإحلال مجموعات سكانية أوروبية محلها) والأمبريالى (حكم بلدان ومناطق خارج القارة العجوز ونهب ثرواتها واستغلال مواردها البشرية كوقود للتنافس بين الأوروبيين وممارسة القتل والقمع والتعذيب كما فعل البريطانيون فى الهند والفرنسيون فى الجزائر على سبيل المثال لا الحصر)، نحو التطور العلمى والعسكرى والصناعى وتوظيفه عنفا وقتلا وفتكا لإخضاع الكرة الأرضية ومن عليها لإرادتهم، نحو إنتاج المقولات العنصرية مثل «عبء الرجل الأبيض« لتبرير جرائمهم بحق الشعوب الأخرى واستغلالهم للثروات الطبيعية والبشرية خارج قارتهم لمراكمة الثروة داخلها والإبقاء على هيمنتها العالمية.
وفقا لشبنجلر ولوفيت ويونج وتوينبى وغيرهم، لم يكن لاندفاعات الأوروبيين الكارثية هذه، وهى تواكبت مع صعود القوميات المتطرفة فى الجزء الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، سوى لترتب خروج تكالبهم التجارى والاستعمارى وسباقات تسلحهم وتنافسهم العلمى والصناعى عن السيطرة وانهيار التوازن الهش بين إمبراطورياتهم وممالكهم واشتعال الحرب العالمية الأولى التى قضت فى المحصلة النهائية على هيمنتهم وزجت بنموذج تقدمهم إلى أتون أزمة وجودية كبرى تواصلت بين الحربين وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية وفى العقود التى تلتها ولم تتراجع إلى اليوم.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات