تاريخ مصر الحديث.. ملاحظات ختامية - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تاريخ مصر الحديث.. ملاحظات ختامية

نشر فى : السبت 17 يوليه 2021 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 17 يوليه 2021 - 7:40 م

فى ٢٢ أغسطس من العام الماضى بدأت فى نشر قراءة لتاريخ مصر الحديث منذ حكم محمد على وحتى نهاية حكم فاروق. عبر ٢٤ مقالة وفى حوالى ٢٨٠٠٠ كلمة حاولت الوقوف على أهم المحطات المفصلية فى حكم الأسرة العلوية لمصر وصولا إلى قيام حركة الضباط الأحرار بإنهاء الملكية وإنشاء النظام الجمهورى.
عبر ما يقرب من قرن ونصف القرن (١٨٠٥ــ١٩٥٣)، حكم مصر تسعة حكام بشكل فعلى من الأسرة العلوية وهم بالترتيب محمد على باشا، عباس حلمى الأول، محمد سعيد، الخديوى اسماعيل، محمد توفيق، عباس الثانى، حسين كامل، فؤاد الأول، والملك فاروق، بالإضافة إلى حاكمين اثنين بشكل مؤقت أو رمزى، وهما إبراهيم باشا نجل محمد على باشا والذى حكم بالنيابة عن أبيه من مارس إلى نوفمبر ١٨٤٨، والأمير أحمد فؤاد الذى كان اسميا آخر ملوك مصر من حكام الأسرة وإن كان فعليا لم يكن وقتها سوى رضيع لا يملك من أمره شيئا!
•••
رغم تباين الآراء بشأن تقييم حكم الأسرة العلوية، إلا أن هناك بعض الملاحظات الختامية التى لا يمكن تجاوزها عند تحليل هذه الفترة الهامة من حكم البلاد، وتتمثل أهم هذه الملاحظات فى:
النقطة الأولى، أن حكم الأسرة العلوية هو الأكثر استقرارا فى تاريخ مصر الحديث حتى مرحلة ما قبل الجمهورية! فمنذ عصر الفتوحات الإسلامية لم تعرف مصر الكثير من الاستقرار وخصوصا بعد سقوط الدولة الفاطمية. ورغم أن مصر حُكمت لفترات طويلة بواسطة المماليك، إلا أن حكم الأخيرين لم يعرف الكثير من الاستقرار وشهد الكثير من الفشل فى الحكم المركزى وفى فرض السيادة على الأراضى المصرية.
أما النقطة الثانية، فهى إنه ورغم طول واستقرار فترة حكم الأسرة العلوية، إلا أنها لم تكن طوال الوقت تحكم بمعزل عن سلطات أخرى خارجية، فمنذ ١٨٠٥ وحتى ١٩١٤ ظلت مصر تحت السيادة العثمانية، صحيح أن هذه السيادة كانت اسمية، إلا أنها فى الكثير من الأحيان أثرت على اتخاذ القصر فى مصر للقرارات السياسية داخليا وخارجيا، فالتنسيق مع الباب العالى كان فى الكثير من الفترات محور لاستقرار الحكم فى مصر. كما أن حكم الأسرة العلوية تأثر أيضا بالتاج البريطانى منذ الاحتلال الإنجليزى لمصر فى عام ١٨٨٢ وحتى قيام الجمهورية، ظلت بريطانيا فى هذه الفترة متحكمة فى الكثير من القرارات السياسية والاقتصادية على المستويين الداخلى والخارجى، ورغم حصول مصر على الاستقلال رسميا فى ١٩٢٢ إلا أنه وحتى حركة الضباط الأحرار فى ١٩٥٢ فإن هذا الاستقلال ظل مجرد حبر على ورق إذ ظل القصر طرفا ثانيا فى اتخاذ القرارات المتعلقة بسيادة البلاد.
ثالثا، لا يجب أبدا التشكيك فى حقيقة أن الأسرة العلوية قد أرست أعمدة الدولة الحديثة فى مصر؛ فمنذ حكم محمد على باشا، وعلى عكس حكم المماليك الرجعى رغم طوله النسبى، ظهرت مؤسسات الدولة بالمعنى الحديث تباعا وخاصة السلطة التنفيذية، والتقسيمات الإدارية، والحكم المركزى داخليا ووحدة صنع القرار فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ثم تباعا ظهرت مؤسسات الحكم الحديث وخاصة السلطتين التشريعية والدستورية مع تطور ملحوظ فى النظام القضائى المدنى وأخيرا فى إنشاء الأحزاب والنقابات، بحيث أنه ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كان يمكن وصف مؤسسات الحكم فى مصر بأنها مؤسسات حديثة وخاصة إذا ما قورنت مصر بغيرها من الدول الناهضة فى أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والعالم العربى فى ذلك التوقيت.
رابعا، يبقى أهم إنجازات الأسرة العلوية إنشاء سلطات الضبط وإنفاذ القانون والحفاظ على الأمن العام والقومي؛ حيث كان إنشاء جيش مركزى قوى قائم على التجنيد الإجبارى، ولاحقا تطوير نظام البوليس، واحدا من أهم إسهامات الأسرة العلوية فى مصر وخاصة فى دولة شهدت قرونا من التشرذم وعدم الانضباط وسيادة العرف على القانون.
خامسا، كانت فترة حكم الأسرة العلوية هى بداية تأسيس البنية التحتية المصرية من ترع وقنوات وقناطر واستحداث طرق زراعية جديدة، كما أنها شهدت تأسيس البنوك والمصارف، بالإضافة إلى وسائل الاتصال والمواصلات (السكك الحديدية والخدمة البرق والتلغراف)، هذا فضلا عن قناة السويس مما جعل مصر دولة ذات أهمية استراتيجية عظمى فى المنطقة.
سادسا، تبقى واحدة من أهم إسهامات الأسرة العلوية فى مصر هى إنشاء نظم تعليمية حديثة بدأت بإرسال البعثات العلمية إلى الخارج وتواصلت بزيادة عدد المدارس الابتدائية والإعدادية، ولاحقا تطوير الدراسات العليا وإنشاء الكليات المتخصصة فى الطب والهندسة وغيرها من العلوم التطبيقية التى ساهمت فى إخراج أجيال من أصحاب الياقات البيضاء وساهمت فى توسيع مساحة الطبقة الوسطى فى مصر. وكذلك فقد ازدهرت الصحافة ولاحقا العديد من الفنون الأخرى ولاسيما فى السينما والمسرح مما جعل مصر واحدة من أهم مراكز صناعة الفن الحديث فى المنطقة.
سابعا، كان من أهم مميزات حكم الأسرة العلوية وجود تعددية فى المجتمع المصري؛ فمصر كانت قبلة العديد من الجاليات الأجنبية وخاصة الجاليات الإيطالية واليونانية والفرنسية، هذا فضلا عن أن مصر شهدت هجرة العديد من المجتمعات الأقل حظا أو المضطهدة مثل يهود أوروبا والأرمن فى القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وقد ساهمت هذه التعددية التى حافظت عليها ورعتها الأسرة العلوية حقا فى إثراء الثقافة والفن فى البلاد.
ثامنا، شهدت مصر فى عهد الأسرة العلوية طفرة كبيرة فى تيارين إقليميين شكلا دورا هاما فى عقل ووجدان الشعب المصرى لاحقا، هذان التياران هما التيار الإسلامى التنويرى الذى شهد مدرسة دينية إسلامية حاولت المواءمة بين الإسلام والحداثة، والتيار القومى العروبى الذى احتضن مثقفين مصريين وعرب ساهموا فى زيادة الوعى بالقضايا القومية العربية، وهو ما ساهم لاحقا فى إنشاء أول تنظيم إقليمى للدول العربية وهو جامعة الدول العربية التى انطلقت من الإسكندرية حتى من قبل إعلان قيام الأمم المتحدة.

•••

إلا أنه ورغم هذه الإسهامات الهامة والتى وضعت مصر على خريطة الدول الحديثة فى العالم والرائدة فى المنطقة، فلا يمكن بالطبع إغفال العديد من المثالب لحكم الأسرة العلوية فى مصر، فسياسات التمييز ضد الشعب المصرى سواء لصالح الأتراك والشركس أو لاحقا لصالح الأوروبيين المقيمين فى مصر كانت من أهم أدوات حكم الأسرة العلوية، هذا فضلا عن أن سياسات البذخ التى عاشها القصر فى مقابل حياة الفقر وشظف العيش بالنسبة لعامة المواطنين والمواطنات لم تؤد فقط إلى إرساء بذور الطبقية المجتمعية التى يمكن استمرار ملاحظة رواسبها فى الحياة المعاصرة، ولكنها أيضا ساهمت فى استدانة مصر الفادحة وهى الأداة التى استخدمها المستعمر لتجذير التبعية والتدخل فى الشأن المصرى.
كذلك فمن أكثر القضايا جدلية بين المهتمين بالشأن الديمقراطى المصرى هو تقييم الديموقراطية المصرية فى العهد الملكى. والحقيقة أنه لا يمكن إنكار قيام الأسرة العلوية بالسماح بنظام ديموقراطى مؤسساتى برلمانى دستورى شهد تعددية حزبية حقيقية بحيث كان تشكيل الحكومة ليس عملا منفردا للملك ولكنه نتيجة وجود أغلبية برلمانية على النحو المشروح فى المقالات السابقة من هذه السلسلة، ورغم ذلك فليس من الدقة المبالغة فى الحديث عن هذه الديموقراطية، صحيح أن الأخيرة فى ذلك العصر عالميا لم تكن قد تطورت كثيرا، وهو ما يعنى أن النسخة التعددية المصرية فى عهد الملكية كان لها وزنها عالميا وكانت متفوقة وسابقة حتى للتطور الديموقراطى العثماني ــ التركى، إلا أن هذه التعددية قد شهدت العديد من التدخلات غير الدستورية مرة من بريطانيا ومرات من الملك ذاته، فضلا عن أن عامة الشعب كان مستبعدا من عملية التمثيل السياسى حيث إن أكبر وأهم أحزاب تلك الحقبة، وهو حزب الوفد، ظل فى التحليل الأخير حزبا نخبويا بامتياز!
إذا أردنا أن نلخص فترة حكم الأسرة العلوية بمميزاته وعيوبه، فإنه بوسعنا أن نقول إن الأسرة قد أنشأت مصر الحديثة ووضعت الأساس لما يمكن تسميته بالهوية المصرية.

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.