درسٌ فى الصحافة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

درسٌ فى الصحافة

نشر فى : السبت 17 ديسمبر 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 17 ديسمبر 2022 - 8:10 م

يجتمع فريق التحرير بجريدة الـ«نيويورك تايمز» أمام شاشة الكمبيوتر، تتراجع اللقطات المنفردة، لتفسح الطريق أمام لقطات جماعية من كل الزوايا، دين باكويت الأسمر، وريبيكا كوربيت بشعرها الأبيض المميز، ومعهما الصحفيتان ميجان توهى، وجودى كونتور، لحظة تاريخية باكتمال القصة الخبرية، بعد عمل شاق.
الآن فقط يمكن اتهام المنتج هارفى واينستين، بالأدلة والوثائق والشهادات، بأنه مارس التحرش والاغتصاب، ضد ممثلات وموظفات شركته. تمر الكاميرا أمام سطور مرصعة بأسماء بطلات الاعترافات.
لقطات قريبة على أيقونات الصفحة، وصولا إلى أيقونة النشر، مع الضغط على هذه الأيقونة، ينتهى الفيلم الأمريكى المحكم، القوى والمؤثر «she said»، عن وقائع حقيقية، أدَّت إلى تقديم هارفى، العجوز الوضيع، للمحاكمة، وهو يقضى الآن مدة عقوبة طويلة فى السجن.
حكاية عن هزيمة الخوف والصمت، وتحقيق العدالة، وروح الفريق، والأداء المهنى رفيع المستوى، للصحافة الحرة، اليقظة والواعية.
هو أيضا فيلم فى مديح النساء الجسورات، صحفيتان هما ميجان وجودى، تابعتا خيوط الحكاية، من مصدر إلى آخر، ومن أمريكا إلى بريطانيا، بمساندة أسطوات المهنة فى الجريدة، دين وريبيكا، اللذين أدارا المعركة حتى لحظة النشر.
ونساء قهرن مخاوفهن وألمهن، وقررن الشهادة، حتى لا تتكرر مأساة هارفى مع أخريات.
القصة مشهورة وفاصلة، لأنها أفرزت قوانين لحماية النساء أثناء العمل، ولأنها شجعت عشرات النساء فى العالم كله، على الحديث عما وقع لهن من حوادث تحرش واغتصاب.
والفيلم شيق وخطير، حافل بأدق التفاصيل، يهمّش هارفى، فلا نراه إلا من وراء ظهره، وقد حضر ذليلا، للدفاع عن نفسه، فى مقر الجريدة، ومعه فريق من المحامين، ونسمع صوته وهو يطارد النساء، ويكذب وهو يحلف بزوجته وأبنائه، ويصيح غاضبا فى التليفون، بعد أن عرف بمتابعة «النيويورك تايمز» لفضائحه، التى استمرت من التسعينيات، حتى سنة نشر القصة فى 2016، وكانت من ضحاياه ممثلات شهيرات، مثل آشلى جود، وجونيث بالترو.
الفيلم عن كيفية بناء دراما من قصة خبرية، ويذكرنا بأفلام شهيرة عن الصحافة، ودورها، وكتّابها الشجعان والموهوبين، كما فى فيلمى «كل رجال الرئيس» و«البوست»، ولكن هذه المرة التحية لجريدة «النيويورك تايمز»، منافسة صحيفة «الواشنطن بوست»، بل إن التحية للمهنة كلها فى أفضل تجليات دورها الرقابى.
الحكاية أيضا عن العدالة، عن المرأة التى تستحق احترام جسدها ومشاعرها، عن انتشار التحرش بسبب السكوت، عن شيوع الظاهرة فى أمريكا من أعلى إلى أسفل، حيث يبدأ الفيلم من اتهام دونالد ترامب أيضا بالتحرش، وكان وقتها مرشحا للرئاسة.
لو كان الأمر بيدى لعرضت الفيلم فى نقابة الصحفيين، وفى دورات الصحافة الاستقصائية، ليتعلم الصحفيون الشباب كيفية بناء قصة خبرية محكمة، وبصورة قانونية موثقة، لا تعرضهم للمساءلة.
كيف يتلقى الصحفيون الدعم والمشورة من رؤسائهم الأكثر خبرة وحنكة؟ وكيف يمكن أن تتعاون صحفيتان معا باقتدار فى موضوع واحد؟ وكيف يتم التأكد من كل معلومة؟
لم تكن مشكلة ميجان وجودى فقط فى الوصول إلى المصادر، ولكن أيضا فى إقناع كل مصدر بالحديث علانية، وفى تقسيم الأدوار، وفى تجميع أجزاء الحكاية معا، مثل قطع البازل، وفى مقاومة لحظات الإحباط، وفى العمل المستمر، مهما كانت الصعوبات والعقوبات.
كل القواعد المهنية والقانونية حاضرة، ومنها احترام حق من لا يريد أن ينشر اسمه، واستئذان المصدر فى النقل عنه، سواء بجمل صريحة، أو من خلال الموافقة على تمرير خبر، والتحايل على القيود الصارمة للوصول إلى المعلومة والوثيقة، هما الأساس، وقوتهما من قوة المصدر ومكانته.
براعة الصحفى فى ذكائه ولباقته، وفى معرفة مفتاح كل شخصية، وفى اختيار الوقت المناسب للحديث مع مصدره، وفى توفير طمأنينة تتيح للمصدر أن يبوح، وليست المهارة فى الإلحاح السمج أو الغبى، أو الخشونة، أو الصوت العالى.
ميجان وجودى شعرتا أن التحرش قضيتهما الشخصية، وليست المهنية فقط، كانتا أمهات لفتيات صغيرات، وتدافعان عن بناتهما قبل كل شىء، وكان لديهما زوجان يدعمانهما، وفى الصحيفة مستشار قانونى يتابع ويقول رأيه.
المهنية تظهر فى الاتصال بهارفى قبل النشر، وإمهاله يومين للرد على ما سينشر، فالحكاية ليست فرقعة والسلام، وإنما من الضرورى استيفاء كل جوانب الموضوع، وإعطاء حق الرد، مع صرامة فى رفض التهديد، ورفض الخضوع.
هذا الدور فى حماية الصحفيتين، ومواجهة غطرسة هارفى وصفاقته، كان يقوم به المحرر المخضرم دين باكويت، الذى كان يعرف متى يسمع دفاع هارفى عبر التليفون؟ ومتى يغلق التليفون فى وجهه؟
الصحافة فى الفيلم ليست فهلوة، وليست سرعة فى النشر، ولكنها مهنة بحث عن الحقيقة، لا تقل فى أهميتها عما يفعله رجال البوليس.
الجريدة تنفق على القصة حتى لو اقتضى الأمر سفر الصحفية إلى لندن، والحكاية تأخذ وقتها كاملا، حتى تستوفى عناصرها.
الصحفيتان هما نجمتا الكتابة، ولكن العمل جماعى من فريق تحرير كامل، يراجع كل شىء بالكلمة.
الصحافة هى صوت الناس، وهذا هو مصدر تأثيرها القوى، وهى فعلا سلطة حقيقية فى تشكيل الرأى العام.
وإذا كان هارفى قد لجأ إلى فريق من المحامين، يوفرون له حماية تتمثل فى تسوياتٍ مالية، وتعويضات دفعها ثمنا لسكوت من قام هذا الذئب العجوز بالتحرش بهن، أو باغتصابهن، فإن الصحافة هى التى أخذته إلى المحاكمة، وهى التى نشرت معاناة الضحايا.
قالت النساء كلمتهن عبر الصحيفة، فصارت التحية مزدوجة: للكلمة المنطوقة بالاعتراف والشهادة، وللكلمة المكتوبة بالنشر.
استوعب مصمم أفيش الفيلم المعنى، فوضع الممثلتين الرائعتين كارى موليجان فى دور «ميجان»، وزوى كازان فى دور جودى، أمام نافذة عالية، بستائر تجعلهما تبدوان مثل الأعمدة الصحفية المتجاورة، فأصبحنا أمام تلخيص بليغ للحكاية: صحفيتان تصنعان مجدا بالأعمدة مكتوبة.
صارت الكلمة نورا كاشفا، وصار الصمت على الجريمة هو الجريمة.
وأصبح المعنى عظيما: الإعلام الحقيقى للناس.. وبالناس.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات