هو قرن من الأحلام بالاستقلال والوحدة والتقدم، استفاق بعده العرب ليجدوا بلادهم محتلة مرتهنة فى قرارها السياسى، ثرواتها ليست لها، وقد تحولت من مستعمرات إلى محميات تتحكم بحاضرها ومستقبلها الإمبريالية الأمريكية بعنوان إسرائيل و«الرجعية العربية».
لم تتأخر الانتفاضات وحركات الاعتراض كثيرا.. ففى العام 1920 كانت ثورة العشرين فى العراق بعنوان البصرة، وقد امتدت إلى النجف وكربلاء، وسرعان ما التحقت بها بغداد والموصل.. وكانت «التسوية» أن جىء بالأمير فيصل ابن الشريف حسين الذى «طرده» الفرنسيون من سوريا لينصب ملكا هاشميا على العراق.. فى حين اقتطع بعض غرب سوريا ليكون «إمارة شرقى الأردن» لشقيقه عبدالله ابن الشريف حسين، وهى الإمارة التى ستكون التمهيد الفعلى لإقامة الكيان الإسرائيلى فوق أرض فلسطين.
ولقد تفجرت سوريا بثورة شعبية عظيمة فى العام 1925، كان بين أبرز قادتها سلطان باشا الأطرش، وقد تميزت بأنها جمعت السوريين متخطية الطوائف والمذاهب، مسقطة محاولة فرنسا تقسيمها إلى أربع دويلات مقتتلة على قاعدة طائفية.
بعد ذلك تفجرت فلسطين بالانتفاضات الشعبية التى بلغت ذروتها فى العام 1936 ضد العصابات الصهيونية التى كانت باشرت بشراء الأراضى فى فلسطين من مالكيها، وكان بينهم لبنانيون وعراقيون ومصريون.. إلخ، فى سياق التمهيد لإقامة «دولة إسرائيل» على أرضها وعلى حساب أهلها.
.. وكانت «النكبة» فى 15 مايو 1948، وإعلان قيام إسرائيل على بعض أرض فلسطين، فى حين «منح» البعض الآخر أى الضفة الغربية، للأمير عبدالله ابن الشريف حسين لتصير الإمارة «مملكة» ويصير نصف الفلسطينيين لاجئين توزعوا على سوريا ولبنان ومصر (مع غزة التى أبقيت تحت حمايتها..)
سبق الروس الأمريكيين إلى الاعتراف بدولة إسرائيل فى قرار مجلس الأمن الدولى بإقامتها على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها الذى شردته «النكبة» بين لبنان وسوريا والأردن وبعض العراق وصولا إلى الخليج بعنوان الكويت.
***
ها نحن بعد قرن من نهاية الحرب العالمية الثانية، ومائة وثلاث سنوات من وعد بلفور نعيش حالة من التشرذم والتخاصم بين عناوينها أن بعض الدول العربية قد «صالح» دولة العدو الإسرائيلى (مصر ــ السادات وبعدها أردن الملك حسين)، وأن دولا أخرى قد هادنتها (سوريا حافظ الأسد ولبنان)، فى حين اندفعت وتندفع دول عربية أخرى لم تحارب إسرائيل كعدو يوما، إلى الاعتراف بها والتسابق إلى الصلح معها.. بشهادة «صفقة القرن» التى أعلنها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالشراكة مع رئيس حكومة العدو الإسرائيلى نتنياهو، وفى حضور ثلاثة من سفراء الدول العربية الخليجية الذين كانوا فى غاية السعادة وهم يشهدون هذا الحدث التاريخى، ويصفقون لترامب ونتنياهو بكثير من الزهو.
... وها هو رئيس مجلس قيادة الثورة فى السودان الجنرال عبدالفتاح البرهان يسافر إلى أوغندا ــ عنتيبى ليلتقى رئيس حكومة العدو الإسرائيلى فيها، ويعود ليبشر بعصر من السلام، والاهتمام ببناء بلاده، ومنح شركة «العال» الإسرائيلية حق الطيران فى الفضاء السودانى وهى متجهة إلى أوروبا.
***
خلال مائة سنة، فقط، دار الزمان بالعرب دورة كاملة فإذا أرضهم محتلة كليا، أو جزئيا؛ فى السعودية وإمارات الخليج قوات أمريكية، وفى قطر قوات أمريكية وتركية، وفى سوريا قوات إيرانية حليفة وقوات أمريكية فى الشرق حيث منابع النفط وقوات تركية فى الشمال بعنوان إدلب وما بعدها، وقوات روسية لها أكثر من قاعدة عسكرية أبرزها حميميم على الشاطئ بين طرطوس واللاذقية.. وفى لبنان قوات أمريكية على شكل مدربين فى مطارى حالات ورياق العسكريين.
متى الانتفاضات الجديدة، وأين؟
ذلك هو السؤال..
وعسى أن تكون انتفاضة لبنان، مع اختلاف الظروف، هى البداية.
.. مع الخوف دائما من أن تتكاتف على المنتفضين فى لبنان كل القوى المعادية للتغيير فى أربع رياح الأرض العربية.
***
التغيير ممنوع إلا إلى الأسوأ، فالتحرر، فى نظر البعض، غربة عن عصر التمدن والتكنولوجيا وعودة إلى الجاهلية، ثم ماذا تعنى «العروبة»؟ لقد انقضى عصر القوميات والوطنيات! هذه هى الولايات المتحدة الأمريكية.. إن أهاليها تركوا قومياتهم حيث ولدوا وجاءوا إليها مثل الآخرين، فجعلوها أقوى دولة فى العالم.
ولقد أمكن للعرب فى زمن نهضتهم أن يقدموا للعالم كوكبة من الفلاسفة والعلماء والشعراء، معتزين بهم، متبنين إبداعهم، وفيهم من أضاف إلى مكتبتهم الفكرية بعض أخطر الكتب، بما فى ذلك كتب لتفسير القرآن الكريم، فضلا عن كتب عدة فى الفيزياء والطب وعلم النجوم. وليست مصادفة أن يكون بين أسمائهم أو ألقابهم «الخوارزمى» أو «ابن سيناء» و«الطبطبائى» إلخ...
الإمبراطوريات أممية بطبيعة تكوينها.. فإذا ما ضعفت وتهاوت أركانها استعاد الكثير من أهلها هوياتهم الأصلية، وربما أنشأوا دولا أو جددوا دولهم القديمة بهويات جديدة..
وكان المفكر المصرى لويس عوض المعروف يتباهى بأن حدود مصر الفرعونية وصلت إلى جبال الأناضول.
وفى زيارة سابقة إلى جامعة أوكسفورد أبلغنى أحد أساتذة التاريخ فيها وهو عالم عجوز أن الكتب الأولى التى أسست للمكتبة العظيمة فيها إنما جاء بها مسافر شهد تدمير الأندلس وإحراق مكتباتها الفخمة التى كانت تحتوى على أهم إبداعات الفكر الانسانى، علوما وثقافة وتاريخا، طبا وصيدلة وأبحاثا فى الفلك وفى حركة الموج وعلوم الفضاء.
***
المأزق العربى الآن: كيف نلحق بعصر التقدم من دون أن نفقد هويتنا.
ليست المشكلة فى اللغة، فالعلوم يمكن ترجمتها من مختلف اللغات.. وهكذا كان السياق التاريخى: من أثينا وروما ومصر الفرعونية إلى إيران الفارسية قبل أن يحضر الغرب ويتقدم عبر حروب أهلية مدمرة، ثم يكتشف قارة أمريكا التى ستغدو فى القرن الماضى القطب الجاذب للعلماء والمفكرين والدارسين من أربع رياح الأرض وتمنحهم جنسيتها فتغلب على أصولهم وتمنحها شرف تبنيهم بنتاجهم المميز علميا وفكريا وثقافيا، وتتقدم على طريق إعادة صياغة العالم بلغتها (المأخوذة من بريطانيا)، بينما عجزت روسيا القيصرية ثم السوفياتية عن تحقيق مثل هذا الإنجاز برغم تفوقها العسكرى (أول من غزا الفضاء، حتى لا ننسى غاغارين..).
المطلوب أن يجتهد العرب وأن يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم وأن يتذكروا تاريخ نهضتهم من دون الغرق فى الماضى (الأصولية)، وأن يتقدموا ليكونوا حيث تفرض عليهم حياتهم وعراقتهم وشغفهم بطلب العلم والابتكار والتجدد.
.. والحياة، فى بعض جوانبها، تحد لمن يطلب الغد الأفضل ويعمل بجد للوصول إليه..
والتقدم لا يشترى جاهزا كأثاث المنازل والمكاتب وهدايا المناسبات.