حين أغلق العالم أبوابه - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حين أغلق العالم أبوابه

نشر فى : الأربعاء 18 مارس 2020 - 10:30 م | آخر تحديث : الخميس 19 مارس 2020 - 1:34 م

هكذا ودون تمهيد، يتحول العالم الرتيب رغم مصائبه المتكررة إلى بؤرة من المجهول. تتسارع الأحداث وتكثر التحذيرات والتعميمات فى مواجهة الغيب. حتى «علم» الغيب يختفى، فلا علم بعد لتفسير ما يحدث.
***
فى الأيام القليلة الماضية لجأ البعض إلى المزاح والبعض الآخر إلى الجدية فى التعامل مع ما يمكن أن يصيب سبعين بالمائة من سكان الأرض بحسب بعض المصادر. أما الغالبية من الناس فقد بدأوا تدريجيا باتخاذ بعض التدابير ربما تماشيا مع الهلع من حولهم وربما احتراما لتعليمات الحكومات التى يعيشون تحتها.
***
يبدو لى أن ثمة قفل عملاق يحيط بالكرة الأرضية وقت المساء، يشده أحدهم بكثير من الحزم فيحدث صوتا رهيبا حين ينزل من السماء ويرتطم بالأرض. القفل يشبه ما استخدمه تجار الأسواق القديمة على مدى قرون، يشدون الستارة الحديدية من السقف فتحبس داخلها الخيرات والبضاعة فى المحل حتى يفتحه صاحب المحل فى صباح اليوم التالى.
***
أما نحن، سكان الكرة الأرضية التى بدأ صاحب كل بلد بإغلاقها على من فيها، ها نحن نجلس فى مساء تجتاحه عواصف من الأمطار والغبار والعواطف نتساءل عما ينتظرنا فى الصباح. أفتح عينى وأشعر بتنفسى وكأننى أتنفس للمرة الأولى. ثمة شعور غريب يتملكنى حين أفكر، حتى لو من بعيد، أن هذه الأيام قد تكون أيامى الأخيرة على الأرض. فجأة يصبح لكل شىء معنى، ولا معنى لشىء.
***
أن أتنفس؟ معجزة. أن أتحسس جسدى فأجد كل شىء فى مكانه يصبح مدعاة للفرح. أن أشم رائحة القهوة؟ مهرجان. أن تندس صغيرتى بقربى وأنا أكتب؟ سعادة. أن يمشى ابنى الأوسط أمامى ذهابا وإيابا بقلق، وهو الأصلب بين أطفالى الثلاثة، فأدعوه للجلوس فى حضنى وكأنه طفل رضيع؟ وجع قلب. أن يكمل زوجى يومه وكأن كل شىء طبيعى؟ طمأنينة. أن يصر ابنى الأكبر على دعوتى للجلوس معه ومشاهدة فيلم لا يهمنى؟ راحة.
***
كعادتى أمام كل أزمة، أبدأ بوضع لوائح. أنا أحب اللوائح، فهى تساعدنى على تركيز اهتمامى وتوزيع طاقتى، أو بالأحرى تبعد عنى القلق. إن كان القفل فعلا قد وقع علينا، سكان الأرض جميعا دون استثناء، دون تمييز يذكر هذه المرة، بعد قرون من التمييز بين غنى وفقير، بين مؤمن وملحد، بين رجل وامرأة، لو أننا فعلا نراقب نهاية العالم كل من شباك بيته، ما هى الأشياء التى ما زلت أريد أن أعملها قبل الفناء؟
***
أريد أن أدس أنفى فى شعر ابنتى قبل أن تنام. أريد أن أضحك مع أخى على قصص لن يفهمها سوى من عاش معنا فى بيت أمى وأبى. أريد أن أرى أمى مرة أخيرة فى فستانها الأسود والأحمر الذى كانت تلفه حول جسدها النحيل حين كنت فى الثالثة من عمرى. أريد أن أرى والدى ببنطاله الجينز الضيق وهو يرقص على موسيقى الروك أند رول كما ظهر فى صورة بهتت ألوانها فى عقلى. أريد أن أمسك بيدى الطفلين وأعبر الشارع فى مدينة أزورها للمرة الأولى. أريد أن أجلس إلى طاولة للعشاء ــ أهو العشاء الأخير؟ ــ مع رشا وعنايات والأستاذ جميل وغيرهم، أريدهم أن يكونوا أصدقاء، لماذا لم أعرفهم على بعض من قبل؟ أريد أن أشرب القهوة فى بيت هناك، فى مكان هو الوطن، مع صديقات لا يتوقفن عن الكلام. أعد أننى لن أقاطعهن وأننى سوف أطلب أكبر قدر من التفاصيل عن كل قصة.
***
هل من المعقول ألا تضم لائحتى الأخيرة أى شىء غير عادى؟ هل لائحتى الأخيرة هى لائحة تفاصيل يومية أصبحت اليوم أكثر إدراكا أنها قد لا تتكرر؟ فى مواجهة المجهول أتمسك بالعادى. لا أريد أن أمشى إلى قمة جبل أيفرست ولا أن أطير فى بالون فوق سماء كوبادوكيا. لا أريد إجازة على شاطئ فى الأندلس ولا شقة فى أحياء باريس. هذا كله بعيد كل البعد عن تفاصيل يومية أخزنها فى قلبى منذ سنوات بعناية فائقة كمن يلف جواهر فى قطعة قماش من المخمل. كنت أخزنها حتى أخرجها فى يوم أكون فيه متقدمة فى السن، سيدة عجوز تجلس قرب الشباك فى شقة خرج منها أولادها كل منهم إلى حياته. كنت أتخيل أننى سوف أسحب هذه الذكريات واحدة تلو الأخرى من داخل قطعة القماش فتبعد عنى شعورى بالوحدة.
***
لائحتى الأخيرة، قبل أن يغلق العالم أبوابه على وعلى غيرى، هى صورة بيت يفيض بالحياة، يتحرك داخله ناس من ثلاثة أجيال، من الجد والجدة إلى الأحفاد، ثمة رائحة فى الجو أظن أنها رائحة مربى البرتقال. ثمة موسيقى فى الخلفية يبدو لى أنها أغنية «فوق النخل» بصوت صباح فخرى. ثمة حركة فى المطبخ إذ يستعد البيت لاستقبال الزوار. لائحتى الأخيرة لا تختلف عن أى يوم عادى، لكنها تبدو الآن قمة فى الترف، فى وجه كمية المجهول التى أصبحت تحيط بى، يوم قرر العالم أن يغلق أبوابه على من فيه.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات