سوء السوق - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سوء السوق

نشر فى : السبت 18 أبريل 2009 - 4:50 م | آخر تحديث : السبت 18 أبريل 2009 - 4:50 م

 حينما انقسم العالم إلى معسكرين، دأبت التقارير الدولية على تسمية مجموعة الدول الرأسمالية بدول ذات «اقتصادات السوق» مع التأكيد على أنها متقدمة، لتأكيد الرابطة بين السوق والتقدم، وتسمية مجموعة الدول الاشتراكية بدول ذات «اقتصادات مخططة مركزيا»، وجمع باقى الدول فى عالم ثالث وصفت دولة بأنها متخلفة، ثم جرى استرضاؤها بتسميتها نامية، أو فى طريق النمو كما يطلق عليها بالفرنسية.

وبحثت هذه الأخيرة عن طريق تسلكه نحو التقدم، فرأى الكثير منها أنها لا تملك القدرة على تلبية حاجاتها بالرضوخ لقوى سوق الغلبة فيها لمن يملك، ولا مكان فيها لمن لا يملك. وحينما تداعت مجموعة الدول المخططة المركزية، تصاعدت الهتافات بفوز نظام السوق، وبأنه الصراط المستقيم الذى يقود متبعيه إلى الدخول فى زمرة الدول المتقدمة.

ودفعت الإدارة الأمريكية كلا من صندوق النقد والبنك الدوليين إلى «توافق واشنطن» اللذىن سخرتهما بواسطته فى فرض «إصلاح اقتصادى» على الدول النامية، للخروج من المأزق الذى وقعت فيه بسبب تداعيات الاضطرابات التى تعرضت لها اقتصادات السوق المتقدمة التى كانت هى الأجدر بالإصلاح. ثم بدأت تفرض رؤيتها بما يسمى الإصلاح السياسى الذى ينفض عنها النظم الشمولية ويحرر اقتصاداتها من قبضة الحكومات.

ولا جدال أن السوق بمعنى تقابل عرضا وطلب شىء معين ذى قيمة، هو حقيقة لا يمكن تجاهلها. وقديما جعل العرب للكلام ــ الذى لا يعلو صوتهم إلا فيه ــ سوقا أطلقوا عليها عكاظ. ولكن وجود السوق لا يعنى وجوب أن تسود. ففى سوق الخبز نجد فى جانب العرض منتجيه. أما على جانب الطلب فتصطف طوابير «ما زالت تزيد أزمة المرور اختناقا» تضم كل من يريد الحصول عليه شريطة أن يملك ثمن ما يريد شراءه. أما من لا يملك فلا يشفع له تضوره جوعا.

وقد يملك شخص قيمة ما يريد شراءه يوما ولكنه لا يجده يوما آخر يكون قد تعطل فيه ففقد الدخل الذى ينفقه على حاجياته ويصنف إحصائيا ضمن الفقراء. وعندئذ يدخل العليمون ببواطن الأمور فى جدل حول ما إذا كانت البطالة 15 ٪ أو 25 ٪، وما إذا كان الفقر 20 ٪ أو 40 ٪. أو قد يقفز السعر فجأة إلى الضعف فيشتريه القادرون، أما من لا يقدر فـ«ذنبه على جنبه». فالسوق نزهة لمن يملك ونقمة على من لا يملك.

ويقال عندئذ إن السوق قد توازن عند سعر يتساوى فيه الطلب مع العرض، وهذا هو غاية المراد من رب العباد. أما إذا فاق العرض الطلب فإن السعر ينخفض، فيضطر المنتجون الأقل كفاءة والأعلى تكلفة، إلى التوقف عن الإنتاج، وتسريح من كان لديهم من عمال والامتناع عن طلب مستلزمات الإنتاج.

وبنفس المنطق يؤدى نقص الطلب على المستلزمات لتوازن جديد فى أسواقها، قد يصحبه استغناء عن عاملين فيها. أما أين يذهب العمال؟ فأمامهم سوق العمل يوظف من توجد حاجة له ويعطل الباقين.

فالكل سواء أمام السوق. فإذا اعترض على بطالة البشر جاء حل السوق السحرى، بتخفيض سعر العمل أى الأجر فيزيد الطلب عليهم «هكذا !!». ومن هنا كان تشديد توافق واشنطن على «مرونة سوق العمل» حتى يتمكن أصحاب الأعمال من مساومة العمال على العمل بأجر أقل وساعات أطول، وبعقود تمكنّهم من التخلص منهم حينما يخشون على أرباحهم أن تخدش.. وهكذا يجرى «تسليع» البشر، بإخضاعهم لقوانين السوق السارية على السلع. فالعبرة بالكفاءة الاقتصادية التى تكفل توجيه الموارد إلى أفضل الاستخدامات وفق مقياس السعر.

فإذا تذمر شخص من سوء السوق، قيل له إن السوق تعطى مؤشرات يؤدى تجاهلها إلى ضياع الكثير من الموارد، وكأن البشر ليسوا موردا فتعطله ليس ضياعا، ولا يجرى توضيح لما يعانونه خلال الفترة التى تمضى بين انحراف المؤشر المزعوم وتصحيحه. فالمؤشر، وهو حركة السعر، يظهر بعد أن تكون وقعت الواقعة، وتصحيحها قد يتم على حساب إحداث وقائع فى مواقع أخرى.

لنأخذ مثلا أزمة الغذاء التى ترتبت على قيام مصدّريه بتوجيه جانب من الحبوب التى يصنع منها إلى استخدامات غير آدمية بدعوى حل مشكلة الطاقة، وهو نصف الحقيقة.

والنصف الآخر هو ملء جيوب المزارعين لشراء أصواتهم. ولا اعتبار لفقدان شعوب موارد مالية ثمنا للبقاء على قيد الحياة بدلا من توجيهها للتنمية، أو لهلاك الملايين بسبب المجاعة..

فما استحق أن يعيش من لا يملك قيمة قوت يومه. ولإسدال الستار على تلك المأساة أشعلت سوق البترول لتأكيد وجود حاجة لمصدر بديل للطاقة، عن طريق مضاربات عادت فهبطت بالسعر إلى أقل من الثلث، ويقف المنتج الأصيل للبترول موقف المتفرج.

وسرعان ما أطلقت تلك الموجة ارتفاعات فى أسعار الطاقة التى تدخل كل مصنع وكل بيت، دون أن يتذكر كيسنجر وعشيرته تهديده فى 1974 باحتلال منابع البترول إذا ما تجاوز سعره 13 دولارا.. فقد تم احتلال منابع البترول وكسر إرادة أصحابها.

الوجه الآخر لأسواق السلع والخدمات هو أسواق المال، الذى يلعب دورين. الأول هو أنه المقابل لعمليات تبادل السلع والخدمات، فيعكس ما يصيب أسعارها عامة من ارتفاع فى حالة التضخم، أو من انخفاض فى حالة الانكماش. والثانى أن النقود من الأصول التى يحتفظ فيها بثروة للمستقبل، فتتنافس مع أصول أخرى كالذهب والمجوهرات والأراضى والعقارات وأصول ملكية المنشآت الإنتاجية، وهى جميعا تؤثر على قيمتها فيتأثر بها الجميع، ليكون الوقع أشد على ذوى الموارد المحدودة.

والأداة المستخدمة هى سعر الفائدة، الذى يُرفع لمكافحة التضخم أيا كان مصدره، فيصيب أثره الجميع دون تمييز. وحينما تتعرض دول السوق المتقدمة للتضخم ــ وهى كثيرا ما تفعل ــ ترفع أسعار الفائدة على المقترضين فتستنزف موارد الدول النامية المقترضة، وتتفاقم مديونيتها وتتراجع تنميتها.

ومع التقلب المستمر فى سعر صرف نقود وطنية مقابل أجنبية، نجد مثلا أن ضعف الدولار قد يخدم الاقتصاد الأمريكى ولكنه يكون وبالا على من وثقوا فيه فقبلوه مقابل سلع صدروها أو بديلا لعملات أخرى تحت إغراء أدوات الاستثمار الدولارية. وظهرت أسواق للمضاربة على عملات يدخل فيها أى فرد مشتريا لعملة يتوقع ارتفاع سعر صرفها ثم يعيد بيعها ليجنى الفرق إن تحقق أو يتحمل الخسارة إذا خاب فأله.

وقد صممت أدوات تحليل وتنبؤ وأتيحت على شبكات الاتصال، ويُسّر استخدامها للعامة بحيث بات التعامل فى بيع وشراء النقود أضعاف ما يتحرك منها فعلا مقابل سلع وخدمات. وخصصت للأصول الورقية أسواق تحركها توقعات عن المستقبل، فإذا أشارت أدوات التنبؤ باتجاه بعض الأوراق للانخفاض قرر الجميع التخلص منها فى نفس الوقت فتنهار السوق، ويوصف اليوم بأنه أسود. ونحن نعيش شهورا سوداء ولا عزاء للمفلسين والمتعطلين..

فالحل فى السوق هو الإفلاس. وإذا كانت السوق تعجز عن التنبؤ بمستقبل ما هو قائم ومعروف، فكيف تؤشر لجدوى ما هو مجهول فى ظل عالم يقوم تقدمه على ابتكارات لم تتحدد معالمها وليس لها سوق بعد؟
وقانا الله من سوء السوق.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات