الجمال.. وحسن إدارة الأمور - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 2:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجمال.. وحسن إدارة الأمور

نشر فى : الخميس 18 مايو 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : الخميس 18 مايو 2023 - 7:45 م

أخيرا وبعد انتظار طال على مدى سنة كاملة، بدأ الحوار الوطنى الذى جمع أطيافا كثيرة من قوس قزح التيار السياسى فى مصر، على أمل أن يسفر عن توافق شعبى يقودنا إلى طريق سوى لعبور مرحلة دقيقة فى تاريخ بلادنا.
بدأت الجلسة الافتتاحية بكلمة مذاعة للسيد رئيس الجمهورية تلتها كلمات لمنسق الحوار الوطنى وكوكبة من المتحدثين منهم عمرو موسى، الذى أذكر اسمه دون ألقاب لأنه أكبر من الألقاب لخدمته الطويلة المتفانية لبلده ولكونه مؤسسا لمدرسة دبلوماسية راسخة هو لها نموذج وقدوة وأسوة.
بدأ موسى كلمته باستعراض تساؤلات الشعب المصرى ومخاوفه، وذكر فى هذا الصدد تعاظم الديون وأشار إلى فقه الأولويات ومصير المحتجزين والحريات العامة، وكلها دون شك قضايا محورية. ولعل تساؤلات الناس بشأنها وقلقهم بسببها كان من الدوافع لإقامة الحوار الوطنى، ولكنى لن أطرق هذه الأمور التى طرقها العديد من السياسيين والمحللين والمراقبين وقتلوها بحثا.
طرق موسى بابا أعتقد أنه لا يقل أهمية عن القضايا الكبيرة، التى انشغل بها الحوار، وهو إثارة قضية «عشوائيات القبح والاعتداء على جمال المدن والقرى»، ورفع شعار «إن جمال المدن والقرى من حسن إدارة الأمور»، وباستعراض التاريخ الحديث نجد قصورا شديدا فى المواءمة بين ضرورة التكيف مع الزيادة الهائلة فى عدد السكان وما تستوجبه من مشروعات البنية التحتية لتحقيق السيولة ومنع الاختناقات وبين الحفاظ على جمال بلادنا ورونقها: نماذج نذكرها عن تشويه الجمال تدمع العين وينزف القلب مع ذكرها.
• • •
احتراق دار الأوبرا سنة 1971 حدث قدرى، وإن كان لا يخلو من شبهة الإهمال وعدم وضع نظام أمنى لمنع الحريق أو السيطرة عليه إذا اندلع، ولكن ما حدث بعد الحريق أمرا لا يمكن غفرانه، فأقيم مكان الأوبرا المحترقة التى كانت درة من درر الجمال الحضارى والمعمارى فى تاج مصر جراج متعدد الطوابق مؤهل للحصول على جائزة أقبح عمل معمارى، ثم أزيلت الحديقة والنافورة وترك فندق كونتيننتال المواجه لعوامل الزمن.
ثم كانت الجريمة الحضارية والمعمارية بهدم فندق سميراميس بطرازه الباروك البديع لإقامة فندق حديث موجود مثله فى بلاد كثيرة دون تاريخ أو ذاكرة، لأن الفندق الجديد أدواره أكثر وبالتالى أرباحه أكثر. وسيطرت هذه الرؤية الاستثمارية المالية على الفكر لهدم فندق يوريفاج الصيفى الجميل فى الإسكندرية ذى الحديقة التى ارتادها الفنانون والصحفيون ونجوم المجتمع، لأن مساحة الفندق الصغير الجميل تكفى لبناء برج منيف بعد أن ارتفع سعر المتر على الكورنيش إلى أرقام ملكية. أما ثالثة الأثافى كانت بناء كوبرى 6 أكتوبر الذى أحاط بأحد أجمل ميادين مصر.. ميدان رمسيس بتمثال الفرعون العظيم والنافورة والحديقة الجميلة، فبدا رمسيس العظيم كالأسير وسط الإنشاءات حتى رحمناه وسمحنا له أن يلوذ بالمتحف الكبير.
تقترن العشوائيات فى أذهاننا بعشش يقيمها محدودو الدخل والفقراء ليضعوا سقفا فوق رءوسهم. ولكن تتبدد هذه الفكرة إذا سرنا فى طريق المحور ورأينا عمارات من عشرة طوابق لم يكلف من بناها نفسه بطلاء واجهاتها وتركها بالطوب الأحمر.
وكما جاء فى كلمة موسى فإن العشوائيات امتدت إلى خارج القاهرة إلى كل قرية من قرى مصر. ويعرف ذلك كل من زار الريف ورأى البيوت التى بناها من فتح الله عليه بالعمل فى ليبيا ودول الخليج بعد أن عادوا بما جنوه ثمنا للغربة والعرق والدموع والدم من الرزق الحلال، ليحققوا أعز الأحلام ببناء بيت من الخرسانة والطوب ليميزهم عن عبيد الأرض الذين يسكنون فى أكواخ من الطين، وهو مطمح مشروع ونبيل، ولكن أن يترك البانى البيت بلا طلاء ويترك أسياخ الحديد بارزة من أعمدة الخرسانة انتظارا لرحلة جديدة إلى ليبيا أو الخليج لإضافة طابق جديد للبيت فهو الأمر المرفوض الذى يسهم فى إشاعة العشوائية والقبح.
• • •
الجمال قيمة إنسانية راقية، وتقدير الجمال هو أول خطوة فى طريق الحضارة والمدنية، فالإنسان البدائى شرع فى التحضر عندما قطف لأول مرة زهرة لا ليأكلها ولكن ليستمتع بجمالها. ومصر عرفت الجمال وقدرته منذ أزل التاريخ وجعلت له اسما «نفر»، ولدينا أسماء مثل نفرتيتى «الجميلة تتهادى» ونفرتارى «الرقيقة الجميلة» وتقربا للإله أطلقوا عليه نفر نتشر «الإله الجميل».
الجمال ليس بالضرورة مرادفا للثراء والغنى ويمكن أن يكون بسيطا غير مكلف، وأذكر أنى شاهدت فى ريف السويد بيوتا بسيطة مبنية بالحجارة ومسقوفة بالقش مطلية بطلاء جيرى أبيض ونوافذها خشبية خضراء وزرقاء غاية فى الجمال وملتزمة بخطوط تيسر التهوية الصحية والتنقل فى أرجاء القرية. والجمال لا يقترن بالأبراج العالية ذات الوجهات الزجاجية لكنه إحساس وتناسق وذوق.
وصدق عمرو موسى حين قال «إن جمال المدن والقرى من حسن إدارة الأمور».
علينا أن نحافظ على جمال القاهرة مدينة الألف مئذنة وتاريخ الألف عام لا أن نهجرها إلى كمباوندات ومدن جديدة. علينا أن نحافظ على جمال ريفنا وقرانا التى لطالما غنينا لجماله بحقوله ونخيله وسواقيه وأبراج حمامه. الجمال والحفاظ عليه والاستمتاع به حق أصيل من حقوق الإنسان ومظهر أكيد من مظاهر التحضر والمدنية.
إن تكريس قيمة الجمال يحتاج إلى جهد تعليمى وتربوى وحتى دينى بتزكية مقولة «إن الله جميل يحب الجمال» وأعتقد أن هذا أمر متفق عليه ولن يسبب أى جدل أو خلاف فى أروقة الحوار الوطنى.
تحية لعمرو موسى الذى طرق بابا قل أن يطرقه أحد، طرقة عزيزة من ابن وفى عزيز من أبناء مصر.

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات