الحلم ما بين العباس بن فرناس وجمال عبدالناصر - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الخميس 14 نوفمبر 2024 7:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحلم ما بين العباس بن فرناس وجمال عبدالناصر

نشر فى : الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 7:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 سبتمبر 2024 - 7:45 م

 

حلم العباس بن فرناس أن يطير فى الجو ويناطح النسور فى مملكة السماء. ولم يكن بن فرناس الوحيد الذى راوده هذا الحلم الذى عبر عنه الإغريق فى أسطورة إيكاروس الذى ثبت جناحين على ذراعيه كساهما بالريش ولصقهما بالشمع وطار وارتفع فى السماء حتى اقترب من الشمس، لكن أذابت حرارتها الشمع وتشتت الريش وسقط إيكاروس إلى حتفه! رسخت أساطير ألف ليلة وليلة فى حكايات بساط الريح حلم الطيران إلا أن عباس بن فرناس، وهو فيلسوف وعالم رياضيات وفيزيائى عاش فى الأندلس، قرر أن يحول الحلم إلى حقيقة فقام فى عام 850 ميلاديا، وبتقليد إيكاروس، فصنع جناحين حلق بهما فى الهواء إلا أن التجربة انتهت بسقوطه وتمزق الأجنحة.

 

رغم سقوط بن فرناس إلا أن حلم الطيران ظل يراود الإنسان وبعد أكثر من 900 سنة من سقوط بن فرناس صنع الأخوان Mongolfier فى عام 1783 أول بالون هواء ساخن ليحلق فى السماء انطلاقا من باحة قصر فرساى. خطى الحلم خطوة جديدة بانطلاق طائرة الأخوين رايت فى عام 1903 لتكون أول جسم طائر أثقل من الهواء يحركه موتور. قطعت الطائرة 256 مترا فى 12 ثانية على ارتفاع 30 قدما.
لم يسفه أحد التجربة ويجهض الحلم بل استمرت الجهود للارتقاء بعلم وفن الطيران. وما لبثت الحرب العالمية الأولى أن نشبت وحققت فيها الطائرات إنجازات كبيرة ثم عبرت الطائرات القارات والمحيطات وكسرت حاجز الصوت وطارت حول العالم بلا توقف ووصلت إلى 80 ألف قدم فى الارتفاع، وباتت الطائرات الجامبو تحمل مئات الركاب وعشرات الأطنان من البضائع. وخلال هذا الزمن سقطت مئات الطائرات وقتل الآلاف من راكبيها إلا أن ذلك لم يدفع الإنسان إلى التخلى عن حلم التحليق فى الجو بل دفعه إلى الدراسة والتحليل ليجعله أكثر أمانا وأكثر كفاءة بالعلم والتكنولوجيا.
• • •
فى عام 1958 انطلق جمال عبدالناصر فى خطوة نحو تحقيق حلم الوحدة العربية بإعلانه الوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة التى عرفها بأنها: «دولة تحمى ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق ترد كيد العدو». نشأ حلم الوحدة بعد الصدمة التى أصيب بها العرب عقب الحرب العالمية الأولى، وسقوط الدولة العثمانية، واكتشافهم الخديعة الكبرى التى تعرضوا لها على يد الإمبريالية البريطانية الفرنسية التى وعدتهم بمملكة عربية موحدة ليحاربوا إلى جانبهم فى الحرب، وكان جزاءهم استعمار بريطانى فرنسى لعله أسوأ من العثمانى، قمع الثورات العربية فى العراق وفى سوريا الكبرى وفى فلسطين وفى ريف المغرب. ووصل ضحايا العرب خلال القمع البربرى الذى استخدمت فيه الغازات السامة عشرات الآلاف.
كما أن حلم الطيران لم ينشأ عند العباس بن فرناس بل بدأ الحلم مع ساطع الحصرى فى عشرينيات القرن الماضى، ثم حزب البعث فى الأربعينيات على أيادى الثلاثى صلاح البيطار، وميشيل عفلق، وزكى الأرسوزى تحت شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» إلا أن تطبيق الحلم عمليا كان على يد جمال عبدالناصر. لم يُقدر لتجربة الوحدة النجاح فقد حدث الانفصال بعد ما يزيد قليلا على ثلاث سنوات فى عام 1961. ويمكن إرجاع ذلك إلى الشوفينية المصرية التى استفزت مشاعر السوريين وإلى الصراعات الشللية بين عبدالحكيم عامر وعبدالحميد السراج الذى لم يكن أى منهما على مستوى مسئولية التجربة.
تمسك جمال عبدالناصر بفكرة الوحدة وأبقى اسم دولتها وعلمها لتظل رمزًا لأجيال قادمة. ولعل الجرح الذى سببه انفصال سوريا عن مصر خفف وطأته وضمد جرحه مظاهر أكدت أن فكرة الوحدة العربية لم تمت مع الانفصال، فعادت سوريا والأردن يحاربان مع مصر فى عام 1967. ورغم النكسة لملم العرب صفوفهم فى الخرطوم فى قمة اللاءات الثلاثية التى أعلنت الصمود ورفض الهزيمة فى أغسطس 1967 بعد بالكاد شهرين من النكسة، إضافة إلى الدعم الاقتصادى والعسكرى لمصر طوال فترة حرب الاستنزاف ثم الموقف القوى للدول العربية خلال حرب 73 وخاصة استخدام سلاح البترول.
شهد العرب العديد من التجارب الوحدوية منذ سبعينيات القرن الماضى بداية باتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا فى عام 1971، ومجلس التعاون الخليجى عام 1981، وميثاق التكامل بين مصر والسودان عام 1982، ومجلس التعاون العربى بين مصر والعراق والأردن واليمن الشمالى عام 1989، والاتحاد المغاربى عام 1989 انتهت كلها بالفشل باستثناء مجلس التعاون الخليجى.
• • •
رغم تكرر سقوط الطائرات وضحاياها من الركاب إلا أن حلم الطيران ظل يتطور ويتطور ويتقدم لأنه بعد كل حادثة تتشكل لجان التحقيق من الخبراء والفنيين لبحث أسباب الحادث وعلاج الخلل حتى أصبح الطيران اليوم أأمن وسائل السفر.
أما من كتب عن فشل التجارب الوحدوية فلم يكتب بفرض كشف المرض من أجل الشفاء بل كتب البعض من أجل التشفى أو من أجل تبرير الأخطاء. فاستمر المرض ينتشر ويستفحل دون شفاء.
مع تكرار الفشل فقد قطاع كبير من الأجيال الجديدة إيمانهم بالوحدة بل ذهب البعض إلى إنكار عروبة مصر، فنجد من يقول بفرعونيتها ومن يقول بإسلاميتها ومن يقول بأنها متوسطية نسبة إلى البحر المتوسط.
إذن تجاربنا مع الوحدة بدأت منذ ما يزيد قليلا على مائة عام إذا أخذنا سقوط الدولة العثمانية كنقطة البداية، وأقل من ثمانين عاما بعام إذا أخذنا إنشاء الجامعة العربية كنقطة البداية. أصابنا خلال هذه المدة انتكاسات عديدة، لكننا إذا قارنا تاريخ الوحدة العربية بتاريخ بناء وحدة أوروبا بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية فى القرن الرابع الميلادى، بدأت محاولات إعادة توحيدها سنة 800 ميلادية على يد شارلمان الذى توجه بابا روما ليو الثالث إمبراطورا للإمبراطورية الرومانية المقدسة، فجرت محاولات كثيرة لتوحيد أوروبا بالسيف على يد لويس الرابع عشر ونابليون بونابرت وهتلر، كان مصيرها جميعا الفشل والخراب مرت خلالها أوروبا بحرب الثلاثين عاما والحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الأهلية الإنجليزية والإسبانية والثورة الفرنسية حتى وصلت أوروبا بالاتفاق والتراضى إلى صيغة الاتحاد الأوروبى.
إن أى مراقب موضوعى وقارئ لأحداث الحاضر وأحداث التاريخ سيجد أن الوحدة العربية لم تعد شعارا وعاطفة لكنها باتت ضرورة للبقاء بعد أن سقطت أقنعة الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة وباتت القوة الغاشمة السافرة هى الضامن الوحيد للأمن والوجود. لقد سلمنا يوما زمام أمرنا إلى بريطانيا وضربنا بسيفها وراء لورانس واهمين أنها ستعطينا دولة عربية موحدة، فاتفقت على تقسيم بلادنا مع فرنسا وأعطت فلسطين للصهيونية. لقد أعطينا 99% من الأوراق للولايات المتحدة فزادت أمورنا ضغثا على أبالة، يتوهم البعض اليوم أن الصين تتمرد على النظام الدولى وتؤسس نظاما جديدا يكون من مصلحتنا. أضغاث أحلام لن تغير واقعنا البائس.
إن الطريق الوحيد لمستقبل كريم هو وحدة الصف العربى يجمع عناصر القوة ويسخرها لصالح العرب ومستقبلهم ويقيم الدولة التى وصفناها فى أول تجربة عملية للوحدة، دولة تحمى ولا تهد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق وترد كيد العدو.

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات