دار حديثٌ شَيِّق مع عدد مِن الأصدقاء والصديقات حول المبالغات التى ملأت حيواتِنا وأثقلتها. مبالغات فى الغضب وفى اللامبالاة. فى إبداء الحزن والفرحة. فى الاحتفال والحداد. مبالغات فى تقدير الأفعال التافهة ونَعتِها بالرَّوعة، وفى الحطّ من شأن أشياء قَيِّمة وتجاهلها. انتهى الحديث العادىّ بوصفِه من أحد الجالسين: عظيم، وضَجَّ الباقون بالضحك.
* • •
العظيمُ فى قواميس اللغةِ العَربية هو كلُّ فَخمٍ علا شأنه، والأمرُ العظيمُ هو الجَّاد الخطير، وإن قيل عظُمَت أخطاؤه؛ كان القَّصد أنها كَبُرت وتجاوَزت الحدَّ المقبول، أما إن تعاظمَ المَوقِف فقد تصاعدت أحداثه. إذا عظَّم واحدٌ من الآخر بتشديد الظاء؛ فقد بجَّله وفخَّمه، وإذا قيل عَظَّم الله من قَدرِك؛ فتحية إكبارٍ لشخص أتى بفعل يرفع من مَرتبتِه درجات، أما إذا قيل كذا أعظمَ من كيت؛ فأسلوب تفضيل يَعلو بطرف على آخر، وربما جاءت مُفردتا «أحطّ» و«أحقر» فى زمرة الأضداد التى يمكن استخدامُها، فالعظيم يناقضه كلُّ حقير مُتدنٍّ.
* • •
فى فيلم «صاحب الجلالة» الذى أُنتِجَ مَطلع الستينيات وأخرجه فطين عبد الوهاب؛ أدَّى فريد شوقى دورين هما «عَظمَة السُّلطان مارينجوس الأول» و«حَسَن الحمَّال الفقير» بينما شارك فؤاد المهندس فى دور «عسكرانى» صاحب العبارة التى خلدها تاريخ السينما: «طويل العمر يطول عمره.. هاى هئ» والتى أثارت فى زمنها القهقهاتِ السَّاخرة. لاحقًا؛ ظهرت عباراتٌ مُشابهة على أرض الواقع وانتشرت؛ لكنها لم تُثِر ابتسامةً واحدة ولم تكُن سوى عنوان عَصرٍ جديد، تختلُّ فيه الموازين وتنقلبُ الموائد على الجالسين إليها.
* • •
من أسماءِ النِّساء «عظيمة» ولا يشيع فى المُقابل اسمُ «عظيم» لدى الرِّجال؛ والسَّبب غير أكيد، أما الثابت فصراع دائمٌ بين النوعين حولَ الأقوى والأذكى والأعلى قدرًا ومكانة؛ كلٌّ يحاول أن يجدَ ما يَدعم به صورتَه ويُسوِّغ اعتقاده بتفوقه.
* • •
أُصِيبَ قادةٌ وزعماء بارزون على مرّ التاريخ بما أُطلِقَ عليه «جنون العظمة»؛ اضطرابٌ نفسىّ ذو درجات شدَّة متباينة وأعراض مُحدَّدة، أوردته المَراجع العلمية بين صفحاتها وساقَت بشأنه الأبحاثَ والدراسات. أمكن ردُّ بعض الأفعال العجيبة لأثر هذا الاضطراب وما يخلفه على الأشخاص، وبقيت أفعالٌ أخرى مَحل شكّ وتساؤل؛ فإن يُوصَم مُرتكبُها بالاعتلال؛ تزول عنه المَسئولية وتقع على كاهل من تركوا بيده الأمر. جرَّم الحاكم بأمر الله تناول الملوخية على عامة الناس ليستبقيها طعامًا للخاصَّة؛ وكان موقفُه مُضحكًا.
* • •
اشتهرت قولَةُ «تعظيم سلام» كتقليد أثير فى المُناسبات والأفراح الشعبيَّة التى تضمُّ فرقًا غنائية. يصيح بها مَدعوٌ ويقرن بها اسمَ أحد الحاضرين؛ فتؤدى الفرقة جُملةً موسيقية مألوفة، تحية له وثناءً على أفضاله. أظن أن هذه العادة لم تعد قائمة ولا ظلت الفِرَقُ على حالها، بل حلَّت محلها موسيقى إلكترونية يسهل التحكم فيها؛ لكنها تفتقر إلى ما يخلقُ التواصُلُ المباشر مع العازف والمطرب؛ مِن أجواءٍ حميمة.
* • •
لا يَصِف المرءِ نفسَه بالعَظمَة ولا يمكنه أن يَدفعَ الناسَ لوصفِه بها عنوة؛ فتلك صِفة تُكتَسب بفعل المواقف التى يتخذها، وبقدر الأعمال القيمة التى يأتى بها أو يشارك فيها. عظمة التشييد فى الحضارة المصرية القديمة؛ تلك التى زخَرت بما لا يُضاهيه إلى اليوم مِعمارٌ ولا يرقى إليه بناء.
* • •
أعظم الأفعال ما جاءَ فى وقته، لا ما تحرَّى صاحبُه موضعَ الأمان قبل أن يأتى به. يُؤجِّل كثير الناس ما اعتزم خوفًا من العواقب وتحريًا للسلامة، فإن زال الخطر وابتعدت الغيوم وبان الأفقُ صافيًا هادئًا؛ نفَّذ ما تأجَّل، لكن هيهات أن يكونَ المَردود على ما يُشتَهى؛ فقد حفظنا فى صغرنا الحكمة البليغة: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد؛ ذاك أن اليومَ هو موعده والغدَّ يجعله واهنًا باهتًا.
* • •
العَظمَة صِفةٌ مُعمَّمة شاملة، لا تقتصر على حىّ ولا تنحصر فى جماد، تُستَخدَم لنعت ما هو معنوىّ؛ فيقالُ ما أعظم خُلقه ومَسلكه، وما هو مَادىّ مَلموس؛ فيقال ما أعظم منكبيه.
* • •
العظيم فى غالب الأحوال متواضع، حَميد الشِّيم والخِصال بتعريفه؛ لا ينظر من علٍ ولا تتملَّكه الخيلاءُ، أما مُدَّعى العَظمةَ فيملأ الدنيا ضجيجًا بالحديث عن أمجاده، يَستدِّر من الآخرين المدائح فى شخصِه ويُكثِر فى ذِكر مُعجزاتِه المُتوهَّمة معظم الأحيان؛ بل.
* • •
إذا عجز المرءُ عن الاضطلاع بأمر صَعب وشائك؛ قيل قد عَظُم عليه، والمعنى أنه فاق قدراته وإمكاناته وتعذَّر قيامه به، وإذا كانت صغار الأمور هى التوافه منها؛ فعظائم الأمور هى جسامها؛ لا يتصدى لها إلا كل عتىٍّ عظيم بحجمها.
* • •
غالبًا ما تقترن العظمَة بالمَجد؛ فالأفعال المَجيدة هى صنع العظماء أصحاب المبادئ والعزائم الصلبة، ولا تذكر سمات العظماء إلا وتجسَّد فى الذّهن الأبطالُ الصَّامدون على وجه الأرض فى لبنان وفلسطين، هؤلاء الذين ما برحوا قابضين على سلاحهم، والذين ارتقوا منهم فى خضم المعركة والذين اغتيلوا تباعًا.